اليمن بين مشروعي الجنوب والشمال معادلات صراع تتشكل وحرب قادمة تتبلور....
المتابع والمطلع على المشهد اليمني وحالة الانقسام العميق التي تشهدها خارطة الصراع يدرك تماما أن اليمن يمر بمرحلة فارقة وحاسمة في تاريخه الحديث، مرحلة تتسم بالتشابك السياسي والمعقدات العسكرية والاستراتيجية، حيث لم تعد التحركات المحلية مجرد صراعات داخلية بل امتداد لمعادلات اقليمية ودولية تؤثر على مستقبل المنطقة بأكملها. اليمن اليوم يشهد تفكك القوى التقليدية وظهور مشاريع جديدة تتصارع على النفوذ والسيطرة، ويبرز في هذا الصراع مشروع جنوبي يمتلك رؤية واضحة وهوية سياسية متماسكة وقاعدة شعبية واسعة، في مقابل مشروع شمالي هش يجمع أطرافا متناقضة لكنها تتفق على هدف واحد وهو منع الجنوب من استعادة دولته واستقلاله السياسي والاقتصادي.
كل خطوة على الأرض، كل تحرك عسكري أو سياسي، وكل تحالف جديد يعيد رسم خريطة النفوذ ويكشف عن هشاشة بعض القوى وقدرة أخرى على إعادة إنتاج نفسها، وهو ما يجعل هذه المرحلة حاسمة بشكل استثنائي. المتابع الجاد يدرك أن إدارة هذه الأوراق الاستراتيجية تتطلب وعيا عميقا وفهما دقيقا للتوازنات الإقليمية والدولية، فالنجاح أو الفشل في هذه المرحلة سيحدد ليس فقط مستقبل الجنوب واليمن، بل سيؤثر على استقرار المنطقة بأسرها.
التحركات الاخيرة المرتبكة لطارق صالح ليست مجرد خطوات أستعراض عسكرية أو تحركات تكتيكية بل محاولة لإعادة انتاج مشروع عائلي قديم لا يملك رؤية سياسية حقيقية ولا مشروع دولة مستقل وكل ما يمتلكه حلم بعودة مشروعه العائلي الذي ساهم في صناعة حالة الشتات والفوضى التي تعيشها البلاد اليوم ودخوله صنعاء وحده لن يمنحه النفوذ أو القبول الشعبي فالجغرافيا الزيدية في الشمال ترتبط بالولاء لمن يوفر القوة والثروة وليس لمن يحمل حلم شخصي أو أطروحة تاريخية فاشلة.
وتتقاطع مصالح طارق صالح مع الاخوان المسلمين والحوثيين رغم اختلافاتهم التاريخية العميقة في اصطفاف غير معلن يعلن نفسه وطنيا لكنه في جوهره يسعى لإعاقة المشروع الجنوبي ومنع أي مشروع دولة جنوبية مستقرة وهذه القوى ترى في الحوثي خصما مرحليا يمكن التفاهم معه عند الحاجة بينما يعتبرون المشروع الجنوبي تهديدا وجوديا لقدراتهم على التحكم بالموارد والنفوذ السياسي والاجتماعي ولذلك سيصبح الاصطفاف الزيدي العفاشي الأخواني الحوثي وسيلة استراتيجية لمنع الجنوب من التمدد واستعادة دولته وتوظيفه أداة للضغط على الحلفاء الاقليميين وفرض معادلات غير واضحة على المشهد السياسي.
المشروع الجنوبي بقيادة المجلس الانتقالي هو القوة الوحيدة التي تمتلك رؤية واضحة قاعدة شعبية واسعة وقدرة على البناء المؤسسي مما يجعلها قادرة على حماية الهوية الجنوبية واستعادة الدولة قوة الانتقالي لا تأتي من الخطابات الشعبوية ولا من رفع سقف التحدي بل من التمسك بكلفاءته وإدارة تحالفاته بدقة مع السعودية والامارات والحفاظ على توازن القوى وأي تجاوز للخطوط الحمراء غير المعلنة سيضع المشروع الجنوبي أمام خطر وجودي حقيقي.
الامارات العربية المتحدة تتحرك بحسابات استراتيجية دقيقة دعمها للمشروع الجنوبي ليس موقفا عاطفيا أو ظرفيا بل جزء من استراتيجيتها الخارجية الطويلة المدى فالجنوب يمثل قوة محلية منظمة تمتلك رؤية سياسية واضحة وقدرة على الاستقرار الاجتماعي والسياسي ويمكن أن تتحول إلى لاعب اقليمي مستقر يدعم مصالح الامارات في الأمن والاستثمار والتوازن الاستراتيجي وترى في الجنوب طرفا يمكن الاعتماد عليه لبناء توازنات جديدة في المنطقة بينما يمثل الجنوب ورقة قوة في أي مفاوضات اقليمية ودولية في المجال السياسي أو الاقتصادي أو العسكري في المقابل دعم الامارات لطارق صالح جاء ليس بسبب رهانا طويل الامد بل بسبب الفراغ الكبير في الشمال وغياب أي مشروع سياسي قادر على انتاج قيادة مستقرة فالشمال يعاني انهيارا بنيويا في قواه التقليدية وفشل قياداته في انتاج مشروع وطني مما جعل طارق صالح خيارا عمليا للتعامل مع الواقع لكنه ليس رهانا على المستقبل فالامارات تدرك تماما أن بنيته السياسية لا تختلف عن بنية الاخوان المسلمين في تقلبها وسعيها للسلطة دون مشروع وطني ولذلك يبقى دعمه وظيفة مؤقتة للتعامل مع الفراغ وليس خيارا استراتيجيا طويل المدى.
السعودية تعتبر الانتقالي العمود الفقري لاستقرار الجنوب وهي القوة الحاسمة في أي مواجهة مع المشروع الزيدي لكنها وضعت خطوطا حمراء غير معلنة تجاوز هذه الخطوط سيؤدي إلى خسارة الدعم السعودي وبالتالي تهديد كامل لمشروع الجنوب وقوة الانتقالي الحقيقية تكمن في فهم هذه الديناميكية وعدم الانجرار وراء العاطفة أو المغامرات فالمنطقة كلها تتحرك وفق حسابات استراتيجية دقيقة لا يمكن تجاهلها.
السيناريوهات المستقبلية المحتملة تشمل عدة احتمالات
أولها تصعيد عسكري شمالي يتحرك فيه طارق صالح والإخوان والحوثيون صوب الجنوب ما قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة وفي هذه الحالة سيكون الدور السعودي والاماراتي محوريا لوقف أي تمدد شمالي مع احتمالية تدخل سياسي واقليمي مباشر لفرض التوازن
ثانيا تحالفات شمالية مؤقتة قد تجمع الزيدية المشروع العفاشي والاخوان والحوثي لكن هذا التحالف هش ويمكن أن يتفكك عند أول أزمة وهنا تكمن أهمية قدرة الانتقالي على إدارة التحالفات الإقليمية واستثمار هشاشة التحالف الشمالي
ثالثا ضغط دولي وإقليمي يمكن أن يفرض تسويات سياسية لتجنب صدام شامل وهو ما قد يقلل فرص الجنوب في استعادة كامل دولته إذا لم ينجح الانتقالي في تعزيز قوته الداخلية والمؤسسية
رابعا تمدد سياسي للجنوب اعتماد الانتقالي على حكمة قيادته وقدرته على بناء مؤسسات قوية يمكن أن يحول الجنوب إلى نموذج استقرار سياسي واجتماعي ويضمن مستقبله ضمن المعادلات الاقليمية والدولية
استراتيجية الانتقالي لضمان النجاح تشمل التمسك بالتحالفات الاستراتيجية السعودية والامارات هما الضامن الحقيقي لمشروع الجنوب ويجب الحفاظ على الثقة والتنسيق المستمر التوازن بين القوة والرسائل السياسية وأي خطاب شعبي أو تحركات عسكرية يجب أن تكون محسوبة لا تزيد التوتر مع الحلفاء الاقليميين وقراءة دقيقة لمخططات الشمال فهم التحالف الزيدي الاخواني الحوثي واستثمار نقاط ضعفهم مع منعهم من توحيد الصفوف ضد الجنوب والتحضير لكل الاحتمالات وضع خطط للطوارئ سواء للتصعيد العسكري أو الضغوط السياسية الدولية لضمان الحفاظ على الأرض والنفوذ الشعبي وتعزيز المشروعية الداخلية وتطوير المؤسسات الحكومية والخدمات المدنية في الجنوب لتأكيد وجود الدولة وإظهار قوة المشروع أمام الداخل والخارج
فاليمن يتجه نحو صراع استراتيجي حاسم بين مشروع جنوبي واضح وهوية ودولة وبين مشروع شمالي متشظ يجمعه هدف واحد منع الجنوب من استعادة دولته وأي اصطفاف يضم طارق صالح والإخوان والحوثيين لن يكون وطنيا بل تحالفا سلطويا هدفه ضرب المشروع الجنوبي وإعادة انتاج منظومة الهيمنة التاريخية المرحلة المقبلة تتطلب وعيا سياسيا عميقا إدارة دقيقة للتحالفات الحفاظ على المصالح الاستراتيجية وتجنب أي حسابات خاطئة قد تعيد الجنوب إلى دائرة التراجع التاريخي التاريخ لا يرحم من يكرر أخطاءه والفرصة الحالية قد تكون الاخيرة إذا ضاعت.
التاريخ القريب يقدم درسا صارخا قبل عام 1990 قدمت السعودية نصائح واضحة للقيادة الجنوبية لتجنب الوقوع في فخ الوحدة مع الشمال لكن القيادة السابقة لم تستمع فسقط الجنوب في الهيمنة الشمالية وفقد دولته واليوم تتكرر النصائح بنفس الجوهر لكن في سياق أكثر حساسية وتعقيدا فالتهديد هذه المرة ليس سياسيا فحسب بل يشمل الأمن الاقليمي بأكمله إذا تمكن المشروع الزيدي من العودة إلى الجنوب ومراكز القوى الشمالية تعمل على ارسال رسائل مطمئنة للجنوب عبر الاعلام ومراكز النفوذ والاستخبارات في محاولة لخلق وهم سياسي لدى الانتقالي بأنه يمكن التعايش مع الشمال لكنها في الواقع أدوات لزعزعة الثقة بين الجنوب وحلفائه الاقليميين ومحاولة جر الانتقالي إلى دائرة الوهم السياسي والانخداع بالوعود الفارغة.
ويجب على الانتقالي الحفاظ على توازن دقيق وألا يسمح لهذه الرسائل بإحداث اختراق في موقفه الاستراتيجي كما يجب أن يدرك أن مواجهة المشروع الزيدي الذي يضم الحوثيين والإخوان وطارق صالح لن تكون ممكنة إلا بشراكة استراتيجية قوية مع السعودية والامارات وأي خطوة غير مدروسة أو تجاوز للحدود ستعيد الجنوب إلى دائرة الفشل والهزيمة التاريخية الانتقالي قوة عقلانية يجب أن تدير أوراقها بحكمة وتحافظ على حلفائها فهي تمتلك المشروع ولا تحتاج إلى رفع شعارات شعبوية بل إلى التخطيط الاستراتيجي طويل المدى والقدرة على قراءة المشهد السياسي والعسكري بدقة.




