العبيدي بمصنع السيليكون يكسب الرهان في تونسَ
تُعدُّ المونودراما عملا فنيًا وتحديا، يتطلبُ من صاحبها مهاراتٍ تمثيليّة عالية، إلى جانب تقنيّة كتابيّة تزكيها الموهبة حدّ الاحتراف ، وهذا الأمر توافر عند الكاتب المسرحي التونسي محمد كامل العبيدي وهو أيضا روائي، وله مخطوطات مسرحية وسردية، في مسرحيته مصنع السيليكون النّص الفائز بالجائزة الوطنية في مسابقة المخطوط المسرحي، في إطار الدورة 28 لأيام الإبداع الأدبي بزغوان 2024 والتي كان شعارها هذه الدورة: (المعنى بين النص الأدبي والنص المسرحي)
و(المونودراما) هي شكل من أشكال الأداء المسرحي يعتمدُ على ممثلٍ واحد يؤدي جميع الأدوار والشخصيات في العرض. يتميزُ بالتركيز الكبير على الأداء الفردي والقدرة على تجسيد شخصيات متعددة دون وجود ممثلين آخرين.
تاريخيا تعد مسرحية “مضار التبغ” (The Tobacco Shop): للكاتب الفرنسي جان جاك روسو أول نص مسرحي يصنف كمونودراما مكتملة الشروط الفنية وهي تتناول قصة ممثل يتحدث عن حياته وتجاربه في عالم المسرح، وبعضهم يرى أن مسرحية
كالخاس” (Calchas): هي المجلية في مثل هذا النوع من المسرح وهي محورة من قصص الكاتب الروسي تشيخوف الصعبة. تروي حكاية ممثل يشعر بالفشل ويجسد حال المسرح والممثلين في ذلك الوقت، يتناول العمل موضوع التمثيل والتحديات التي يواجهها الممثل
(مصنع السيليكون) هي مسرحيّة أو مشهديّة كُتِبت لبطلةٍ وَاحدة، وهي مسرحية مونودراما من أربعة مشاهد ومدخل يُمهّد للمسرحية ويؤثث لخشبتها.
لم تعتمدْ المسرحية في شكلها المونودرامي الكلام على أساس نص مكتوب فحسب مؤدّى في شكل خطاب لا حركي جاف؛ لتوفر عناصر أخرى تؤثث خشبة المسرح: الموسيقى، لغة الجسد، الأصوات، الغناء، الضوء، التفاعلات الخارجية الفاعلة حينا والمعرقلة حينا آخر...، ممّا يملأ فضاءا لمسرح بالحيوية والحياة رغم سيطرة ممثل واحد على خشبة المسرح في بناء الأحداث وتواترها.
أما بناء أسس المسرحية لم يكن على أساس القوانين الأرسطية المتمثلة في وحدة الزمان، ووحدة المكان، ووحدة الموضوع، ولم يكن أيضا مبنيا على أساس تحطيم هذه الوحدات التقليدية الثلاث
فالمسرحية إن كان موضوعها موضوعات وحدثها أحداث لم تَخُلَّ بذلك الترابط المنطقي في الانتقال من موضوع إلى موضوع ومن حدث إلى حدث وفي العودة أحيانا لنفس الموضوع بروح مختلفة، ولم يكن للمكان في تطور أحداثها إيحاء بأنّه مكان واحد وإن كان كذلك، أما الزمان فقد كان زمان اللازمان: اللازمان الحكاية التي كان الخيال جوهرها والسّخرية من الواقع أساسها.
شخصية المسرحية:
(ليليث) شخصيّة من نسج الخيال أو هي مجموعة مُتخيّلة أو مُرتبطة بالوطن حدّ الانصهار رغم الاضطهاد، الاضطهاد سواء من طرف من يقاسمونها الأرض، التُّربة والسّماء والهواء أو اضطهادها لذاتها السّويّة حينا والمضطربة حينا آخر.
ملخض المسرحية:
ليليث هيّ مُحامية من أب يهودي من أصول تونسية مُقيمٌ بفرنسا منذ سنة 2011، اختار الإقامة في بلد آخر لا تربطه به أيّ صلّة من قريب أو من بعيد بسبب ما تعرّض إليه من اضطهاد حدّ طرده، لأنّه حسب من طردوه يصنع المحرّمات، وما مصنع السّيليكون الذّي أنشأه وطوّر مُنتجه حسب رأي من كان سببا في تركه وترك البلاد هو صناعة محرّمة وجب غلقه، لكن ليليث واصلت نشاط المصنع عقب
إنصافها في مُحاكمة كانت هي من ترافعت فيها في أوّل تجربة لها في عالم المحاماة ورغم ذلك يأبى أبوها العودة ومباشرة الوقوف عليه ممّا جعل ليليث تواصل إدارة المصنع مع مباشرتها لعملها كمحامية.
مسرحية السيليكون هي قصة ليليث الشخصية المضطربة، المتقلبة، المتحرّرة والحالمة والباحثة عن سُبل لإثبات ذاتها وتأكيد وجودها من خلال سردها لحكايتها بطريقة لم يعتمد فيها الكاتب كُليّة على الكتابة المتشظية وأقصد بالمتشظية التي لا تقوم على أساس التلقي المألوف الذي يشترط أساسا الالتزام أو الخضوع إلى نظام التسلسل في الموضوعات وتوالدها المنطقي. والتي لم تكن (أي حكايتها أو
المسرحية ككل) بالأساس حكاية ذاتية بل كانت معالجة جديّة لبعض الموضوعات الحياتية والوجودية
التّي تتيح للمتفرج وللقارئ على حدّ السواء المشاركة في فك رموزها...
مختارات من المسرحية:
وأنتَ مع الجريدة لا تراني ولا أراك...، كأنّك لا شيءٌ ولا أحدٌ أمامي، ما الذي
يسلب منكَ الصّوت؟ وينْزَعُ عنك الإحساسَ؟ كأنّكَ صخرةٌ على حافةِ طريق
مهجورةٍ تُشيرُ إلى أمكنةٍ بعيدَةٍ لا يزورها أحدٌ، كأنّك تِمثالٌ لِشاعرٍ وطنيّ في
حديقة عمومية لا يزورها غيرُ الأطفالِ أيام الأعياد وبقيّة أيام السّنةِ تتبوّل عليك
كلابُ المدينة السّائبةِ، كأنّك دُميةٌ بلاستيكيّة أو دُمية شبقية من عجينة
السيليكون...
;هل ثمّةَ خبرٌ عنْ طَلْعَةِ شَمْسِ العرَبِ المؤجلّة والرّبيع الذّي لمْ يأتِ؟ هل ثمّةَ
خَبَرٌ عن هزائِمِ العَرَبِ وأحزانِ شُعوبِ العَرَبِ وولائمِ مُلوك وسلاطينِ ورُؤساء
العَرب...؟
هل ثمّة خبرٌ عن ذلك الطّفل الكرديّ الذي فقد أمّه بين الحدود السّورية التّركية؟
هل ثمّة خبر عن ذلك البلد الحزين الذّي يُسمّى العراق؟ أم أنّ كل الأخبار تُلمّع
وتُزيّن لا أكثر؟
هل ثمّة خبر عن أولئك الذين لم يجدوا خُبزًا في سِلالهم ولا دِرهمَ في جيوبهم
المثقوبة؟ هَلْ ثمَّةَ خبرٌ عن اللّواتي لفظهم الرّبيع العربي في حَلَبةَ جهاد النّكاحِ؟
وعنْ ذلك الطّفل الذّي وُلِدَ في الرّقّة من أم مُجاهدة وأب مجهولٍ وتدرّب في صُبراتة ويحاول التّسلّل إلى تونس لتفجير نفسِهِ؟
هلْ ثمّةَ خَبرٌ عن دِمشقَ الياسمينةُ المُلطّخَةُ بِدِماءِ الأبرياءِ منْ أطفالٍ ونساءٍ؟
أظن أن الوحدة تقتل أكثر من السرطان (تضحك عاليا) ... إنه لقول غبيّ...!
قد تُدركنا الموت قبل أن نحقق ما نصبوا إليه، وهل كلّ ما نصبوا إليه يتلخص في ربط مصيرنا بكائنٍ صامتٍ، جامدٍ مُتيبّسٍ، متكلّسٍ لا يرى من مُتعة في
الحياة إلا أن تكوني أيتها المرأة تبعا ومُلحقا له...، ومهما يكن فشرف المرء في
المحاولة، حاولي أن تكوني وحيدة وستهزمين بلا شك طفيليات الحياة وتتفوقي
على شبح الموت.
(تتردّد قليلا ثم تقول بحزم وبثبات)
أعلم أن الحياة بلا رفيق كطريق بلا ضوء، لكني الحقيقة لا أريد التشبّث
ببصيص ضوءٍ غارق في الظَّلامِ
تقف مرتبكة وعلى وجهها ملامح الغضب والسّخط وتقول بصوت مهزوم:
ليتكم تعلموا ما ينتجه مصنع السيليكون...، ألهذا السبب اعتبرتم أبي مارق عن
العادات والتقاليد وخارج عن الملّة والدّين، أبي لا يؤمن أصلا بالأديان
وبالأحزان، أبي يؤمن بالجمال ومصنع السيليكون لا يصنع غير الجمال...
تقفز وتنزع من دُمية السيليكون الجريدة وترمي بها، تتناثر صفحاتها،
تجذبه بقوّة وترمي به، ثمّ تلحق به جريا، تضع ساقها على صدره وتضع يديها على خصرها وبشموخ ترفع صدرها وتصيح بفخر وروح منتصرِ:
اليوم تنتهي أسطورة الرّجال.. اليومَ تنتهي أسطورة سُلطة أشباه الرّجالِ الذّين
يعتقدون أنّهم سادة العالم
ويظنون أنّ النّساء مُجرّد تَبَعٍ لهم، اليوم تنتهي سلطة الكراسي.. المجدُ للواقفين
ولممارسي الحياة، المجدُ للمنتصرين للحقيقة... اليوم انتصرتنّ ونصركم لا
يكتمل إلا بنُصرة كلّ القضايا الإنسانية العادلة وبنُصرةِ الإنسان مهما كان لونه،
مهما كان جنسه، مهما كان عِرقه، مهما كان دينُه. يخفتُ الضّوء، تنسَحِبُ ليليث وهي تجرّ خلفها دُمية السيليكون، وتصعد السّلم
وهي تُغمغِم.. تُتمتِمُ بصوت خافت وبكلام غير مفهوم تترك المسرح ولا نسمع
غير صوت جرّ الدّمية على الخشبة.
ستارة