الجيوش التي تهرب من أول طلقة
في زمن الحروب، يتعرّى كل شيء: الشعارات، الشعارات، وحتى الجيوش نفسها. لا يبقى في الميدان إلا من يحمل قضية، بينما تتساقط الجيوش المصنوعة في غرف الفنادق كما تتساقط أوراق الشجر اليابس عند أول هبّة ريح. فالجيوش التي تهرب من أول طلقة ليست جيوشًا، بل تشكيلات هشة حُشدت لحراسة مصالح اللصوص، لا لحماية وطن ولا لرفع راية.
وهكذا، كما تساقطت جبهات الشمال بلا مقاومة تُذكر، سقطت أسطورة جيش الكدم في الوادي بكل ألويته وعدته وعتاده، ولم تصمد أمام رجال الجنوب إلا ساعة واحدة.
ساعة كافية لتمييز الفرق بين جيش يقاتل عن أرضه، وجيش يقاتل لحراسة امتيازات قادته.
والأدهى من كل ذلك، أنّ بعض الأصوات اليوم لا تزال تبكي على العلم اليمني، وتنعاه في كل منشور وصورة وخطبة. يبكون على قطعة قماش، ويتناسون ـ عن عمد ـ أنّ ضباطهم وجنودهم أنفسهم هم أول من أهان هذا العلم.
لقد خلعوا ملابسهم العسكرية ورموها في الصحراء، فروا حفاةً إلا من الخوف، وتركوا شعار الدجاجة مدفونًا في الرمال، لا يلتفت إليه أحد.
أي احترام للعلم يتحدثون عنه وهم الذين هربوا وتركوه وراءهم؟ أي قدسية للراية ينادون بها وهم أول من تركها ترتجف وحيدة على متارس خاوية؟
كيف يبكي أحدهم على علمٍ لم ينكسه الجنوب، بل نكسه جيشهم وهم يخلعون بزاتهم كما تُخلع عباءة عارٍ؟ وكيف يطالبون الآخرين باحترام راية لم يحترموها هم يوم كانت المعارك تحتاج رجلًا واحدًا فقط يقف تحت ظلّها؟
هؤلاء الذين يثرثرون عن العلم ليسوا غيورين عليه، بل على النفوذ الذي سقط بسقوط تلك الجبهات. والدليل على ذلك أن فصل الانهيارات لا يزال مستمرًا: من جبهات الشمال، إلى "أسطورة" الكدم، إلى جنرالات يفرّون بلا خجل ويتركون أوسمتهم وأعلامهم وبدلاتهم في رمال الصحراء.
إن الجيوش التي تُبنى على الولاء للغنيمة لا على الولاء للوطن، تنهار دائمًا عند أول اختبار. أما الجيوش التي تحمل في صدورها قضية، فلا يهزّها سلاح يُترك خلفه، ولا علم يُباع، ولا شعار يُهان. ولهذا، لم يكن غريبًا أن يبقى الجنوب واقفًا بينما تموت أكاذيب "الجيش الوثني" واحدة بعد الأخرى.
فالجيش الحقيقي لا يُقاس بالدبابات، بل بالرجال.
والعلم الحقيقي لا يُرفع بالأغاني والخطب، بل يُرفع بمن لا يفرّون حين تحين ساعة الجد.
وما أكثر من فرّوا، وما أقل من بقوا.
علي سيقلي
الجمعة 12 ديسمبر 2025م




