حينما يختفي التاريخ وراء الكلام الجميل ..
الكاتب / بروفيسور قاسم المحبشي ...
كل إنسان يتأثر بالأشياء ( المادية والرمزية) التي شاهدها وسمعها وعرفها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة منذ تكوين جهازة العصبي الدماغي في رحم أمه إذ كشف المختصون في موقع "فيرست تام بريغينانسي" (First time pregnancy) المعني بالصحة الإنجابية والطفولة وموقع "تشوب" (Chop) لمستشفى فيلادلفيا للأطفال؛ عن أن حواس الطفل الخمس تتشكل وتتطور مبكرا جدا منذ لحظة الحمل، لكن نضج تلك الحواس يكون بمعدلات مختلفة خلال مراحل الحمل وبعد الولادة، واول الحواس التي تتكون عند الجنين هي حاسة اللمس وذلك بعد ثلاثة أسابيع فقط من التخصيب والحمل. هكذا أذن تتشكل أولى حواس الجنين قبل أن تعرف الأم الحامل أن جنينا يسكن رحمها؛، وأول الحواس؛ اللمس وتليها الحواس الأخرى بالترتيب ( الشم، التذوق ، السمع البصر) ومعنى هذا إن الطفل الإنساني يتأثر بكل ما يحيط من مؤثرات حسية مباشرة في بيئة حياته الداخلية كما يحدث له بعد الولادة في بيئة حياته الخارجية. رغم أن الجنين يعيش في موضع مكين، الا انه يتأثر بما تتأثر به امه، لذلك ينصح الاطباء باهمية رعاية الامهات الحوامل وتوفير له ظروف حياة صحية وأمنة ومطمئنة ووجبات غذائية صحية ومغذية لا تنقصها أي عنصر من الفيتامينات والمعادن التي يحتاجها جسمها وجسم طفلها ، فالنقص في البروتين او الاملاح او الفيتامينات يضر الجنين، فضلا عن منع الحوامل من تتناول أي عقاقير طبية دون استشارة الطبيب المختص، وهذا معناه أن بيئة الحياة هي واحدة في مرحلتيها الداخلية والخارجية فبيئة الجنين الداخلية ليست معزولة عن بيئة أمه الخارجية فالبيئة هي كامل الوسط الحي الذي يحيط بالكائن الحي من جميع الجهات من فوق ومن تحت ومن الجنوب والشمال أنها وسط الكينونة مع جميع مكوناته الحية وغير الحية، الذي يتفاعل معه الانسان مؤثرا ومتأثرا بشكل يكون معه العيش مريحا فسيولوجيا ونفسيا، وهي الاطار الذي يعيش فيه الانسان ويحصل منه على مقومات حياته من هواء وغذاء وكساء ودواء ومأوى ويمارس فيه علاقاته مع اقرانه من نوعه وأنواع الحياة الأخرى فكل تلك الخبرة الحياتية المخصبة والممزوجة في عالم الممارسة منذ ما قبل الولادة تتراكم وتنحفر في جسد الكائن ودماغه وتظل معه طول حياته حتى مماته بوصفها كل ما تمكن المرء من المرور به وخبره في حياته العابرة في هذه الدنيا الفانية أما ما يجهله فلا وجود له ولا تأثير في حياة الكائن العاقل؛ أنه يشبه العدم المطلق . اقصد الجهل التام حتى لا يروح بالكم بعيد! فمن هو ذا الذي يستطيع التفكير فيما لم يحسه أو يشمه أو يتذوقه أو سمعه أو سمع عنه أبدا أو رأه أو عاشه أو قرأ عنه أو وصل إلى علمه باي طريقه من الطرق منذ تفتحت مداركه الحسية؟ لا أعتقد أن ثمة من يستطيع تأكيد معرفة العدم أبدا وهذا هو معنى القول بارميندس اليوناني( الوجود موجو والعدم غير موجود) أننا جميعا تقريبا نعرف الله وملائكته ورسله وعوالمه الأخروية الغيبية وما فيها من كائنات جميلة ورهيبة ما بين الجنة والنار والبعث والنشور كما نعرف الجن والعفاربت والشياطين والأبالسه وحكايات الكائنات الطيبة والمخيفة التي سمعناها في طفولتنا من مصادر شتى( أجدادنا وجداتنا وأمهاتنا واباءنا وأعمامنا واخولنا وجيراننا ومجتمعاتنا ومساجدنا ومدارسنا وجامعاتنا ونظمنا السياسية ودولنا أن وجدت طبعا وكل شيء ممرنا به في حياتنا واحاط بنا منذ كنا أجنه في أرحام أمهاتنا وبعد صرختنا الأولى ونشاءتنا عبر مراحل نمونا المتعاقبة من لحظة الإخصاب الأول حتى مماتنا تلك هي الحقيقة التي شك فيها؛ هناك بيئتان للإنسان؛ بيئة قبل الولادة واخرى بعد الولادة.البيئة الاولى هي رحم الام، ففي الرحم تنغرس البويضة المخصبة وتبدأ بذلك مرحلة الانسان الاولى، ويمثل الرحم بيئة الجنين المثالية، فالجنين النامي يحاط باغشية تحوي فيما بينها سائلا يحميه من الصدمات. وبيئة خارجية منذ صرخ المولود الأولى في عالم ما تحت فلك القمر، عالم الحس والحواس والفعل والانفعال، عالم الشمس والقمر واليل والنهار والبحار والجبال والانهار والنجوم وكل شي يوجد على كوكب الأرض. تلك هي البيئة التي يتأثر بها كل كائن حي بلا استثناء والإنسان أحدها؛ نقصد بالتأثير هنا المعنى الحياتي الطبيعي التي لا تكون الحياة إلا به طبعا خارج كل معنى قيمي وأخلاقي فربما يكون تاثيرا أيجابيا أو سلبيا لا يهمني لاغراض هذا المنشور. المهم أننا نتأثر بكل شيء مرّ في حياتنا حتى في الأحلام ذاتها. وكل فرد أنساني لديه تجاربه الخاصة جدا في ذلك. بالنسبة لي ما زلت اتذكر كلمات سمعتها في طفولتي المبكرة ولها وظيفة التخويف من الظلام والليل( بين المغرب والعشاء يفعل الله ما يشأ) ( لا تأمن السيل والليل) ( البحر غدار) و(سر بالطريق ولا طال) بمعنى افضل من السير في المجهول .الخ. الآن حالا تمخضت الذاكرة عن زامل فلاحي فكاهي صباحي. كان مزارعون البن يردّدونه اثناء انشغالهم باصلاح سواقي مياه الأمطار بعد أن خربتها السيول المتدفقة بقوة هائلة من أعالي الجبال. كان الرجال الأقوياء مفتولي العضلات هم الذي يتعاونون في تلك الأعمال الشاقة فيما يسمى ( معون، أو عون أو مبادرة في عهد الجمهورية الحديثة) المهم كان عددهم لا يقل عن ثلاثة ولا يزيد على عشرة رجال وهم منهمكون في زحزحة الصخرات الكبيرة في معابر السيل كما عبر عنها فنان اليمن الراحل علي بن علي الأنسي في اغنية جميلة يقول فيها ( صبرت صبر الحجر في مدرب السيل وأعظم )
الشاهد أن الفلاحين في تلك الأيام كانوا يرددون زامل فكاهي لازال عالق في ذهني منذ كنت في العاشرة من عمري:
قال الفتى البداع سعد أخو حليمه
بكُر من المشرق صباح
سوّي على فرخ العقب صايح ولايح
قال إنه جنّ الضياح
أكيد بعض الأصدقاء هنا يعرفون ذلك الزامل الفلاحي الشهير الذي كان يتندر بها الناس زمان الهُبل والاغبياء والزعلان الذين لا يعرفون من الدينا غير ما شافوه في محيط حوش بيتهم وكذلك تروي النكتة عن العبيط الجبلي الذي لم يرى ناقة في حياته ولم يسمع بها حينما شاهدها لأول مرة تأكل الزرع في طين خالته ؛ شاهد ناقة وابنها؛ قعود صغير فقال قولته الشهير ( ياذي خلته كله???? استغفر الله العظيم من كل ما يصفون ويتصورون ويتخيلون بحسب خبراتهم وبيئاتهم ومعارفهم وتجاربهم واشياء أخرى.
فقل للذي يدعي بالعلم معرفة
عرفت أشياء وغابت عنك اشياء
طبعا معظم الاشياء التي يسمع المرء عنها في طفولته ومراحل حياته المختلفة لاسيما تلك المتعلقة بالعالم الأرضي يتمنى يراها ويزورها فمكم هم/ هن/ اولئك الذين كانوا يتمنون زيارة مكة المكرمة والمدينة المنورة في الازمنة القديمة؟ قبل نصف قرن فقط ولا زلت اتذكر تلك المقاطع التي كانت ترددها جدتي :
يا ليتني طير والخالق يسيّ لي جناح
أزور سيدي محمد بالعشي والصباح.
واضح من هذه البيت الرجاء التمني الحلم البسيط بزيارة البيت الكعبة المشرفة كان أقصى أمنياتنا الرجال والنساء في زمن مضى إذكانت خيارات الحياة وفرصها في الأزمنة القديمة ما قبل أنكماش الزمان والمكان شديدة الضيق.
أما اليوم فقد اتسعت الفرص وزادت الخيارات والبدائل. البارحة استمعت إلى محاضرة الشاب الأزهري عبدالمعطي طلبة عن علم الكلام القديم والجديد،في صالون تفكير الرائع بادارة الاستاذ جمال بن عمر. على مدى ساعتين احتدم النقاش حوّل معنى علم الكلام الإسلامي وتاريخه ومدارسه ووظائفه وافكاره وكل شيء يتصل به. قدمها المحاضر بلغة عربية فصيحه وثقة عالية بتمكنه من موضوعه ومزجها في نبرة صوفية عرفانية جميلة. طاف بنا المحاضر الشاب الجميل في عوالم مدهشة بالثقافة والإنسانية والسحر والجمال ولكن لاحظات إن التاريخ اختفى تماما من المحاضرة.



