دِلُـونِي عـمن أسـأل عن راتـبي؟

     دِلُـونِي، عمن أسأل عن راتبي؟ سؤالٌ يردده آلاف الموظفين في اليمن، وقد أثقلهم العجز، وأرهقتهم الأشهر التي تمضي بلا مقابلٍ لعملٍ يواصلونه رغم انطفاء الأمل.

     يقـفون كل صباح أمام مؤسساتهم التي باتت بلا نبض، حاملين وجوههم المرهقة وأحلامهم المعلقة على وعدٍ لم يتحقق، ينتظرون خبرًا أو إشعارًا أو حتى تبريرًا يخفف وجع الغياب الطويل للراتب الذي صار مُفتَقَدًا كالوطن نفسه.

     الراتـب لم يكن يومًا مجرد رقم في كشف حساب، بل شريان حياةٍ لموظفٍ يعيش على الكفاف، يقتطع منه لقمة أطفاله، ودواء والدته، وإيجار بيته، وحين يتوقف هذا الشريان، تخنق الحاجةُ الكرامةَ، وتتحول الأيام إلى سلسلةٍ من الديون والاعتذارات، وتغدو الأسواق ساحاتٍ للخذلان، يمر فيها الموظف كالغريب في وطنٍ لا يسمع شكواه.

     مـن أين يأتي الصبر وقد تقطعت سبل العيش؟

     مـن أين تُروى الكرامة وحين تجف مواردها؟

     لـقد صار الموظف اليمني يقف على حافة الانكسار، بين دينٍ يتراكم وكرامةٍ تتآكل، وبين صمتٍ رسميٍ يوجع أكثر من الجوع ذاته. 

     فـهل يُعقل أن يمضي عامٌ تلو عامٍ دون أن تُطرح هذه المأساة على طاولة القرار بجدية ومسؤولية؟

     إن الراتـب ليس مِنَّةً من أحد، بل حقٌّ مشروع كفلته القوانين والدساتير، وغيابه لا يعني فقط عجز الدولة، بل سقوط مفهوم العدالة في جوهره. 

     كيـف يُطالب الموظف بالإخلاص والالتزام، بينما الدولة تتخلف عن أبسط التزاماتها تجاهه؟ وكيـف يُبنى وطنٌ على جوع من يبنيه؟

     إن تأخـير الرواتب ليس مجرد خللٍ إداري أو أزمةٍ مالية؛ إنه جرحٌ في ضمير الوطن، وامتحانٌ لقيم العدالة والإنصاف؛ فحين يُترك الموظف لمواجهة قسوة الحياة وحيدًا، تنهار الثقة بين المواطن ومؤسساته، ويُفتح الباب أمام اليأس ليحل محل الانتماء.

     دِلُونِي، عمن أسأل عن راتبي؟

هـل أطرق باب الحكومة أم باب الصبر؟

هـل أرفع شكواي إلى المسؤول أم إلى الله؟

     فـي زمنٍ غابت فيه الإجابات، لم يعد الموظف يريد سوى أن يعيش بكرامة، وأن يجد في نهاية الشهر ما يبرر تعبه الطويل وانتظاره الصامت.

     وإلـى من في أيديهم القرار:

تذكـروا أن الجوع لا يصنع سلامًا، وأن الفقر لا يبني أوطانًا، وأن كرامة الإنسان تبدأ من حقه في أجره. 

     فـاستيقظوا قبل أن يتحول الصبر إلى غضب، والخذلان إلى انكسار لا جبر له.

يا أصـحاب الـقرار:

     لسنا نطلب المستحيل، ولا نحمل في قلوبنا إلا رجاء البسطاء الذين أرهقتهم الأيام وأتعبهم الانتظار. 

     نريـد فقـط أن يعود الراتب كما يعود النبض إلى قلبٍ أنهكه الصمت، وأن يشعر الموظف بأن تعبه لا يضيع في الفراغ، وأن جهده لا يُقابل بالنسيان.

     أعيـدوا للراتب مكانته، فهو ليس مجرد أجرٍ شهري، بل كرامةُ أبٍ أمام أسرته، وطمأنينةُ أمٍ في بيتها، وحقّ طفلٍ في الدواء والكساء والتعليم.

     يا مـن تتصدرون المشهد وبأيديكم القرار، افتحوا نوافذ الأمل في وجه هذا الشعب الصابر، فـالراتب اليوم هو مقياس الثقة بين المواطن والدولة، وهو جسر العودة إلى الحياة الطبيعية، لا تتركوا الموظف غارقًا في عجزه، ولا تجعلوا من صبره امتحانًا دائمًا لكرامته.

     فـإن كان الوطن لا يُقاس بحجم ثرواته، فإنه يُقاس بمدى وفائه لأبنائه، فكونوا على قدر الأمانة، وردُّوا للناس حقوقهم قبل أن يذبل فيهم الإيمان بالدولة والعدالة.

     وَويْحَ المأسـاة.. أن يكـون الموظفُ مُكبَّلاً بالتزاماتٍ لا هوادة فيها، ومواثيقَ شرفٍ أمام أسرته ومجتمعه، ثم يُترك وحيدًا يحملُها في عصرِ العجزِ والانتظار. 

     فانقـطعُ الراتبِ لا يدفعُ به إلى هاوية الديون فحسب، بل يهوي بكرامته في متاهةِ المسألةِ والاستجداء، ويحولُه - أمام من أحبّوه وانتظروه - إلى ظلٍّ لعبةٍ انكسرتْ. 

     فاحـذروا.. أن تَحرِفوا كرامةَ إنسانٍ عن مسارها، أو تَجعلوا صبرَهُ الذهبّي رهينةً لِفوضى القرار..

     فـما أسهلَ كسرَ الجـليد، ولكـن من يستطيعُ جمعَ شظايا الـكأس؟

د. هـاني بن محمد القاسمي

عـدن: 22. نوفمبر. 2025م

.