التعـليم خـط الدفـاع الأخـير "مستقبل اليمن بين الجامعات والمعامل وورش العمل"
فـي خِضَمِّ الأزمـات السياسية والاختلالات الاقتصادية التي تعصف باليمن منذ سنوات، يبرز التعليم بمستوياته المختلفة بوصفه خـطَّ الدِّفـاع الأخـير عن بقاء الدولة والمجتمع معًا.
فالأمـم قد تخسر مواردها، وقد تتعثَّر سياساتها، لكنها إذا فقدت التعليمَ فقدت بوصلتها نحو المستقبل.
إن التعلـيم العالي والبحث العلمي والتدريب المهني لا يمثلون ترفًا فكريًا أو خيارًا مؤجَّلًا إلى زمن الاستقرار، بل يشكِّلون ضرورة وجودية، خاصة في البيئات المنهكة بالصراعات؛ فهـذه القطاعات هي القادرة - متى ما حظيت بالدعم والرعاية - على إنتاج العقول التي تستطيع إدارة الأزمات، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وصياغة حلول واقعية لمشكلات المجتمع.
ويُعَدُّ التعلـيم العالـي الركيزة الأساسية لإعداد القيادات العلمية والإدارية والمهنية؛ غير أن الجامعات اليمنية تواجه اليوم تحديات جسيمة، في مقدِّمتها ضعف التمويل، وتدهور البنية التحتية، وهجرة الكفاءات الأكاديمية، وتراجع البحث العلمي إلى هامش الاهتمام الرسمي.
وقـد انعكـس ذلك سلبًا على جودة المخرجات التعليمية، وعلى قدرة الجامعات على مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة.
أمـا البحـث العلـمي، فهو القلب النابض لأي نهضة حقيقية، إذ لا يمكن تصوُّر تنمية مستدامة دون إنتاج معرفة محلية تستجيب لخصوصية الواقع اليمني؛ ومـع ذلك، لا يزال البحث العلمي يعاني من غياب السياسات الوطنية الداعمة، وضعف المخصصات المالية، وغياب الشراكات مع القطاعين العام والخاص، ما جعله جهدًا فرديًا أكثر منه مشروعًا مؤسسيًا منظمًا.
وفـي المقابـل، يظلُّ التدريب المهني والتقني المسارَ الأسرعَ والأكثرَ واقعيةً لمعالجة جزء كبير من الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، كالبطالة والفقر.
فإعـادة الاعتبار للتعليم المهني، وربطه بسوق العمل، وتمكين الشباب من مهارات إنتاجية حقيقية، تمثِّل خطوة جوهرية نحو بناء اقتصاد قادر على الصمود، وتقليل الاعتماد على الوظيفة العامة المحدودة أصلاً.
إن الاستثمار في التعليم والتعلُّم ليس عبئًا على الدولة، بل هو أعظم استثمار طويل الأمد؛ فـكل ريـال يُنفَق على التعليم، إن أُحسِن توظيفه، يختصر سنوات من المعاناة، ويقلِّل كلفة الأزمات، ويعزِّز مناعة المجتمع ضد الانهيار.
كـما أن دعـم المُعلِّم والأستاذ الجامعي والباحث والمتدرب مهنيًّا وماديًّا ومعنويًّا، هو دعـم مباشر لاستقرار الوطن وتماسكه.
وخـتامًا،
فـإنَّ التعليم ليس مرحلةً عابرةً في حياة الأمم، بل هو الضَميرُ الحيُّ الذي يُنبِهُها إلى أخطائها، والبوصلةُ الأخلاقيةُ التي تقودها في ظلام الأزمات
فـلو سلَّمنا - لِلَحظةٍ - بأنَّ السياسة قد تَعثَّرت، والاقتصادَ قد تدهورَ، فإنَّ التعليم يبقى الحصنَ الأخيرَ الذي إن سقط، سقط معه كلُّ أملٍ في صحوةٍ أو نهضة.
إنَّ الوطـن اليوم أمام امتحانٍ وجوديٍّ: إمَّا أن يستثمر في عقول أبنائه، فيصنع من ركام الحرب بُنَاةً، ومن ظلام اليأس مُخترعين، ومن جوع المعرفة قادةً. وإمَّا أن يتخلى عن آخر أسلحته في معركة البقاء، فيفقد جيلًا كاملًا، وتضيع معه ذاكرة الأمة وطاقتها الخلَّاقة.
لـقد حـان الوقت ليكون التعليمُ سياسةً عليا، والبحثُ العلميُّ استراتيجيةً وطنيةً، والتدريبُ المهنيُّ مشروعَ إنقاذٍ عاجلًا.
فـالاستثمار في الإنسان ليس خيارًا من بين خيارات، بل هو الخيار الوحيد الذي لا يحتمل التأجيل أو المساومة.
إنَّ غـدًا أفـضل للوطن لا يُصنع في قصور الحكم أو في قاعات المفاوضات وحدها، بل يُخلَق أولًا في فصول الدراسة المتواضعة، وفي معامل البحث التي لا تنطفئ أنوارها، وفي الورش التي تعلّم الأيدي أن تبني ولا أن تُهدم؛ لأنَّ الأوطان تُبنى بالعلم قبل أن تُبنى بالحجر، وتُحمى بالفكر قبل أن تُحمى بالسلاح.
أ. مشارك د. هـاني بن محمد القاسمي
مستشار رئيس جامعة عدن للشؤون الأكاديمية
عـدن: 28. ديسمبر. 2025م
.




