الجنوب وخيار الانفصال: بين ضغط الداخل وحسابات الإقليم والمجتمع الدولي
يشهد الجنوب اليوم خطوات فعلية نحو الانفصال كنتيجة طبيعية لتراكم طويل من الإقصاء وفشل الدولة المركزية في تحقيق العدالة وتوزيع السلطة والموارد بشكل متوازن لم يعد الانفصال فكرة او شعار احتجاجي بل اصبح خياراً عملياً يستتد الى سنوات من التجربة السياسية والفشل في تحقيق الشراكة الحقيقية بين المركز في الشمال والجنوب وقد لعبت المركزية المفرطة في إدارة الدولة دوراً حاسماً في ترسيخ قناعة لدى قطاع واسع من الجنوبيين بأن الوحدة بصيغتها القائمة لم تُبنَ لتوحيد الشعب بل لإدارة الثروة والموارد من مركز واحد دون شراكة حقيقية أو عدالة في التوزيع.
وتعزز هذا الشعور بشكل حاسم بعد حرب 1994 التي لم تشكل مجرد صراع عسكري بل كانت نقطة الانطلاق لحقبة من الإجراءات الانتقامية والإقصاء السياسي التي بدأت بعد الحرب مباشرة وشملت عزل آلاف الضباط والكوادر الجنوبية ونفي المعارضين وإقصاء الكفاءات من مواقع القرار ونهب الموارد والثروات من أراضي وموانئ وموارد نفطية هذه الإجراءات رسخت شعوراً عميقاً بالظلم لدى الجنوبيين وحولت الدولة من إطار شراكة وطنية إلى أداة للهيمنة على الموارد بالقوة عبر شبكات نفوذ مرتبطة بالمركز ما حول الدولة من إطار شراكة وطنية إلى أداة للهيمنة ونهب الموارد ورسخ شعوراً عميقاً بأن الوحدة تحولت إلى غطاء لإدارة الثروة بالقوة لا إلى مشروع سياسي عادل.
في المراحل الأولى لم يكن التوجه الجنوبي نحو الانفصال هو الخيار المطروح بل سعى الجنوبيون إلى إصلاح مسار الوحدة عبر إعادة ضبطها وتحويلها من نصوص على الورق إلى واقع ملموس كانت المطالب واضحة ومحددة: تمثيل عادل، توزيع متوازن للموارد، وضمان الحقوق السياسية والمدنية إلا أن تعنت قيادات المركز ورفضها الاستجابة لهذه المطالب أسهم في تعميق الشعور بالعجز وفقدان الثقة في النظام القائم ما جعل خيار استعادة الدولة الجنوبية يظهر تدريجياً كخيار استراتيجي لضمان الكرامة والعدالة ومع مرور الوقت اصطدمت محاولات الإصلاح السلمي بجدار من الإهمال السياسي وتحول الإحباط المتراكم إلى قناعة واسعة بعدم جدوى الوحدة بصيغتها الحالية.
لم يعد الانفصال يُنظر إليه كفعل احتجاجي بل كاستجابة طبيعية لمسار طويل من التهميش والإقصاء. ومع ذلك فإن هذا الخيار لا يُعد في الوقت الراهن الخيار المثالي إذ لا يزال الجنوب بحاجة إلى فترة زمنية لاستكمال بناء الإجماع الجنوبي الوطني الشامل وتأسيس مؤسسات فعلية قادرة على إدارة الدولة المستقبلية بكفاءة. إن أي انتقال غير مدروس قد يهدد بتحويل الاستحقاق السياسي إلى عبء جديد بدل أن يكون مدخلًا للاستقرار.
إقليميًا، ينظر اللاعبون الرئيسيون إلى الجنوب من زاوية المصالح الاستراتيجية فموقعه الجغرافي يجعله جزءاً أساسياً من المعادلة الأمنية لمضيق باب المندب والبحر الأحمر، ويطل على البحر العربي وخليج عدن ما يمنحه أهمية استراتيجية قصوى في أمن الملاحة الدولية والممرات البحرية لذلك فإن أي قبول إقليمي بخيار الانفصال يبقى مرهوناً بتوفر شروط أساسية في مقدمتها وجود قيادة جنوبية موحدة ومشروع سياسي واضح المعالم وقدرة فعلية على ضبط الأمن ومنع تحويل الجنوب إلى ساحة صراع بالوكالة وفي ظل الانقسامات الداخلية تميل القوى الإقليمية غالباً إلى سياسة إدارة الواقع بدل حسمه ما يضع مسؤولية إضافية على القوى الجنوبية لترتيب صفوفها داخلياً.
أما المجتمع الدولي وخصوصاً الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة فيتعامل مع ملف الانفصال بحذر مماثل فالموقف الرسمي لا يزال يدعم وحدة اليمن كإطار قائم لكنه لا يرفض بالمطلق أي مشروع سياسي منظم يحقق شروط الاستقرار وفي مقدمتها التوافق الداخلي، والبنية المؤسسية القابلة للتطبيق، وضمان عدم تصعيد النزاعات أو تهديد الملاحة الدولية وأي مشروع انفصال غير منضبط يُنظر إليه دولياً بوصفه ملفاً غير ناضج سياسياً.
في السياق العربي تتحكم المصالح الاستراتيجية في مواقف الدول المؤثرة من القضية الجنوبية السعودية كواحدة من أبرز القوى الإقليمية ومرجعية محورية في الإجماع العربي ولها روابط تاريخية طويلة مع اليمن تشمل الجوانب الاجتماعية، القبلية، الاقتصادية، والثقافية، السياسية، ما يمنحها نفوذاً استراتيجيًا كبيراً في المنطقة. تضع الرياض أمنها القومي واستقرار حدودها على رأس أولوياتها وتخشى أي فراغ أمني قد ينجم عن خطوات غير محسوبة وبينما تسعى لتأمين حدودها مع الشمال فإنها لن تسمح بزعزعة حدودها الجنوبية أو بظهور كيان غير مستقر على خاصرتها. في المقابل تنظر الإمارات إلى الجنوب من زاوية الموانئ وأمن الملاحة ومحاربة التطرف مع تفضيلها وجود شريك منظم قادر على ضبط الأرض. أما مصر فتنطلق من هاجس أمن البحر الأحمر وقناة السويس وتتحفظ على أي تفكيك قد يقود إلى فوضى إقليمية هذه المواقف لا ترفض تطلعات الجنوبيين بقدر ما تتحفظ على التوقيت ونضج المشروع. وفي هذا الإطار يبقى دور سلطنة عمان أقل وضوحاً إذ تميل إلى سياسة الحياد الإيجابي وتفضيل القنوات الهادئة مع تركيزها على الاستقرار الإقليمي وتجنب الانخراط العلني في صراعات قد تؤثر على توازناتها ومصالحها.
في المحصلة يقف الجنوب اليوم عند مفترق طرق حاسم فالتوافق الجنوبي–الجنوبي وبناء مشروع دولة واضح ومؤسسي يمثلان المفتاح الحقيقي لأي تحول سياسي مستدام الانفصال ليس غاية عاجلة بل خيار استراتيجي مستقبلي يجب أن يتم وفق خطة واضحة وبنية مؤسسية متينة أما الاستمرار في رفع الشعارات دون هيكلية أو رؤية عملية فلن يؤدي إلا إلى إطالة أمد الأزمة وإبقاء القضية الجنوبية رهينة لحسابات الداخل والخارج. الجنوب يبحث عن كرامته وحقوقه والانفصال وسيلة لتحقيق العدالة والسيادة بعد تجربة وحدة لم تحقق طموحاته وإدارة هذا الخيار بعقلانية ومسؤولية هي ما سيحدد ما إذا كان الجنوب سيتجه نحو دولة مستقرة وذات شرعية أم سيظل أسيراً لمشاريع الآخرين وصراعات القوى الداخلية. ...




