تمخض الجبل فولد فار.. تحقيقات "طريق العرقوب" تلد قراراً هزيلاً!
بعد كارثة حافلة "صقر الحجاز" التي أودت بحياة 27 مسافراً على طريق العرقوب، الذي اشتهر بأنه يلتهم المركبات كما تلتهم "دليلة" الفريسة في كتاب "كليلة ودمنة"، تمخضت الجبال اليمنية من اجتماعات اللجان الرسمية، لتلد في النهاية... فاراً!
نعم، فاراً صغيراً، هو مجموع القرارات التي خرجت بها "اللجنة العليا للتحقيق" التي تشكلت من معظم الأجهزة الحكومية، وكأننا نواجه غزواً فضائياً وليس حادثاً مأسوياً سببته الإهمال وتردي الطرق وفساد الشركات.
تشكلت اللجنة كما هو معتاد في مثل هذه الكوارث، تماماً كاجتماع "الغربان" في حكايات "كليلة ودمنة" لاتخاذ قرار حاسم، فجمعت بين وزارة النقل (المسؤلة عن الفوضى)، والهيئة العامة لتنظيم شؤون النقل البري (المسئولة عن عدم التنظيم)، وصندوق صيانة الطرق (المسيول عن عدم الصيانة).
أي أننا جمعنا الأطراف الثلاثة المتهمة بالتقصير في لجنة واحدة.. ليحققوا مع أنفسهم! يا له من عدل رائع!
وبعد أسابيع من الاجتماعات والمناقشات والمذكرات، خرجت اللجنة بقرارها التاريخي: إيقاف تعامل شركة البراق والتي لا دخل لها بحادثة حرق الحجاز عفوا صقر الحجاز
نعم، لقد قررت اللجنة الحكيمة معاقبة الشركة التي لا دخل لها بالحادثة وبسحب تراخيص الباصات الجيدة (المرسديس) وترك الباصات الصينية الرديئة، وشركة صقر الحجاز التي تشبه "الحمار في هيئة أسد" من حكايات التراث، تعمل على الطرقات! وكأنهم يقولون للضحايا: "ما كان ينبغي لكم أن تسافروا في باص جيد، فالموت في باص رديء أرحم!"
هذا القرار العبقري يذكرنا بالمثل اليمني الشهير "تسلم على غير الضيف"، فبدلاً من معالجة جوهر المشكلة من فساد وغياب الرقابة وصيانة الطرق التي تشبه "طريق العرقوب" في وعورتها، نجد أن العقاب وقع على الشركات الجيدة التي باصاتها (مرسديس) بينما تمت تبرئة الشركة المحلية والباصات الرديئة من كل تهمة! يا لها من حكمة!
وكأن اللجنة تقول لشركة مرسديس ومختلف الشركات العالمية المشهود لها بتصنيع حافلات قوية وجيدة توائم الضروف اليمنية "خطؤكم أنكم تنتجون باصات قوية قد تعصم الركاب من الموت أحياناً، فلتأتوا إلينا بباصات من قش لنحرقها جميعاً في المرة القادمة!"
لا يسعنا إلا أن نردد المثل اليمني الأزلي الذي يلخص هذه المأساة الهزلية "تمخض الجبل فولد فار".
لقد تمخضت جبال الاجتماعات الرسمية، وانتفخت بطون التقارير، وصرفت ملايين الريالات على بدل السفر والإقامة لأعضاء اللجنة، لتخرج في النهاية بقرار أشبه بفأر صغير، لا يليق بحجم الجبل ولا بفداحة الكارثة
أما بالنسبة للـ 27 ضحية، فقد تحولوا في تقارير اللجنة إلى مجرد أرقام، تماماً كما كانت "دمنة" تنظر إلى ضحاياها في الكتاب الشهير، مجرد وسيلة لتحقيق غاية.
فلم يعد أحد يتذكر أسماءهم أو أحلامهم أو عائلاتهم التي تيتمت، لأن القرارات "الكبرى" تحتاج لتركيز، وليس للبكاء على "تفاصيل صغيرة" مثل الأرواح!
إلى عائلات الضحايا، نقول: تعزوا بأنفسكم، فالحكومة مشغولة بإصدار القرارات "الجريئة" التي تضمن ألا تتكرر المأساة.. بنفس الطريقة! وإلى شركة مرسديس نقول: تعلموا من أخطائكم، فلا تنتجوا باصات قوية مرة أخرى، بل قدموا للأسواق اليمنية باصات مناسبة للرقابة الحكومية، أي باصات "تُحرق" بسهولة!
وإلى اللجنة المحترمة.. نقول: "رب ضارة نافعة".. فقد حميتم الشركات من تحمل تكاليف صيانة الباصات الجيدة! فهل هناك من إنجاز أكبر من هذا؟
وزاد الطين بلة تغير مسار طريق السفر الى طريق ابعد واكثر ضيقا وينذر بكوارث اكبر.
ولذا ليسعنا الا أن نصدق أن الفأر يمكن أن يلد جبلاً!



