كيف سيكون التاريخ ومناهجه بعد التحول الرقمي؟ ..


بروفيسور / قاسم المحبشي ..

فيما يشبه التمهيد للملتقى الدولي عن مناهج النقد التاريخي ..

إنّ التاريخ، بوصفه معرفة ووعيًا بالزمن الإنساني، لم يتخذ شكلًا واحدًا في مساره الطويل، بل ظلّ يتبدل تبعًا لتبدّل الإنسان نفسه ونظره للعالم. فمنذ البدايات الأولى للكتابة التاريخية، تعاقبت مناهج متعددة تمثل كلٌّ منها محاولة لتأطير العلاقة بين الإنسان وواقعه وزمنه.

فقد يبدأ التاريخ أسطوريًا حين ينسب الإنسان نشأته وقضاياه إلى قوى غيبية، ثم يتجه نحو الوصفية اليونانية حيث تبرز الرغبة في تسجيل الوقائع بوصفها أحداثًا مرئية تخضع للعقل والمشاهدة. وبعد ذلك، تتم هيمنة اللاهوت في العصور الوسيطة، فيغدو التاريخ مسرحًا للتجليات الإلهية وإثباتًا لعناية السماء. ومع عصر النهضة، ينشأ الإنسانويّ الذي يعيد الإنسان إلى مركز السردية التاريخية، قبل أن يأتي عصر التنوير ليفرض سلطان العقل بوصفه معيارًا لتفسير حركة التاريخ وفق قوانين مدروسة. ثم يظهر التيار الرومنطيقي في القرن الثامن عشر كصرخة ضدّ تبريد التاريخ بالعقلانية الجافة، مُعلنًا أن العاطفة والخيال جزء من فهم الإنسان لذاته وزمنه.

وفي القرن التاسع عشر، يتشكل النموذج الوضعي مع أوغست كونت وليوبولد فون رانكه، حيث تصبح المعرفة التاريخية بحثًا عن الوقائع الصلبة والمصادر الموثقة، كأن الحقيقة تُختزل في الأرشيف وحده. لكن التاريخ لا يلبث أن يستعيد ذاته في صورة التاريخانية التي تدعو إلى فهم الماضي في سياقه، وتؤكد نسبية الزمن والمعنى في أعمال ماكس فيبر، بنديتو كروتشه، هنري مارو وغيرهم. وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت مدرسة النقد التاريخي على يدي شارل فيكتور لانجلوا وشارل سينوبوس وأسسا مدرسة النقد التاريخي — المدخل إلى الدراسات التاريخية»،
بحسب ترجمة عبدالرحمن بدوي. ثم تأتي المادية التاريخية الماركسية لتعلن أن البنية الاقتصادية هي محرّك التاريخ، وأن صراع الطبقات هو مفتاح التحولات الكبرى. وفي القرن العشرين، تتطور البنيوية لتدرس التاريخ كبنية لغوية وثقافية؛ مع ليفي-شتراوس، فوكو، رولان بارت، لاكان، حيث تصبح القوة والمعرفة واللغة عناصر مُكوِّنة للزمن التاريخي ذاته وفي المقابل، يشق تيار مدرسة الحوليات الفرنسية طريقًا جديدًا بقيادة مارك بلوخ ولوسيان فيفر ثم فرناند بروديل، ليحوّل التاريخ من سرد للملوك والحروب إلى دراسة البنيات الاقتصادية والاجتماعية والذهنيات العميقة، فيصبح التاريخ علماً للإنسان الكلّي عبر الأزمنة الطويلة. وتُعرف هذه المقاربة بـ “التاريخ الجديد” أما اليوم، فنحن نقف على أعتاب براديغم معرفي جديد تُشكّله الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد التاريخ مجرد سرد أو تحليل للوثيقة، بل صار شبكة من البيانات الضخمة، تُقرأ بالخوارزميات والتعلّم العميق، ويعاد إنتاجها على ضوء تفاعل الإنسان مع الآلة. لقد أصبح المؤرخ يجاور عالم البيانات، وأضحت الذاكرة الإنسانية رقميّة، قابلة للدمج والحذف والتحليل اللحظي. وهنا يطرح السؤال الفلسفي الحادّ:هل نحن أمام ميلاد مدرسة تاريخية جديدة؟ مدرسة التاريخ الخوارزمي، حيث يُصبح ماضي الإنسان قابلًا للحوسبة؟أم أن الذكاء الاصطناعي سيُحوّل التاريخ إلى محاكاة تحجب معنى التجربة الإنسانية نفسها؟..