محـاربة تمـويل الإرهـاب وغـسل الأمـوال في مناطـق النـزاع المسـلح
يُـشكِّلُ تمويل الإرهاب وغَسْلَ الأموال في مناطق النزاع المسلح تحديًا مزدوجًا للدول والمجتمع الدولي، إذ تتشابك فيه اعتبارات الأمن القومي والاستقرار المالي وحماية السلم الأهلي.
فـهذه الجرائم لا تقف عند حدود الدولة، بل تتجاوزها إلى شبكات عابرة للحدود تستغل هشاشة المؤسسات الوطنية وانعدام الرقابة الفعّالة في مناطق النزاع، لتغذية الحروب وتمويل الميليشيات وإطالة أمد الصراعات.
ومـن هـنا؛ تأتي أهمية المكافحة القانونية الصارمة لهذه الأنشطة غير المشروعة باعتبارها شرطًا أساسيًا لتحقيق السلام والاستقرار.
إن تمـويل الإرهـاب يُعد وقودًا للصراعات، حيث تتعدد مصادره غير المشروعة، من تهريب السلاح والمخدرات والآثار، إلى استغلال المساعدات الإنسانية وتحويلها إلى موارد حربية.
أمـا غـسل الأمـوال، فيمثل آليةً للتغطية، إذ تُُمكِّنُ الجماعات المسلحة وشبكات الجريمة المنظمة من إدماج الأموال غير المشروعة في الاقتصاد الرسمي، بما يُقوِّضُ نزاهة النظام المالي ويعزز الاقتصاد غير المشروع.
ويترتب على ذلك آثار إنسانية جسيمة، فـكل دولار يتم غسله أو ضخه في تمويل الإرهاب يترجم عمليًا إلى مزيد من الضحايا ونزوح المدنيين وحرمانهم من أبسط مُقوِّمات الحياة.
عـلى الصعيد القانوني الدولي، برزت عدة أدوات لمكافحة هذه الجرائم، أبرزها قرارات مجلس الأمن الدولي، لاسيما القرار رقم 1373 لسنة 2001 الذي ألزم الدول باتخاذ التدابير اللازمة لتجفيف منابع تمويل الإرهاب، والقرار رقم 2462 لسنة 2019 الذي شدّد على تجريم تقديم أي شكل من أشكال الدعم المالي للإرهاب.
كـما شكلت الاتفاقيات الدولية إطارًا مهمًا، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقمع تمويل الإرهاب لعام 1999، واتفاقية مكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية لعام 2000، التي أرست قواعد التعاون الدولي في هذا المجال. وتبقى التزاماتُ الدول قائمةً حتى في حالات النزاع الداخلي أو ضعف الدولة، إذ لا يُعْفَ أي إقليم من منع استخدامه كممر أو ملاذ لتمويل الإرهاب وغسل الأموال.
غـير أن هذه الجهود تواجه تحديات خاصة في مناطق النزاع المسلح، منها غياب مؤسسات الدولة وضعف الرقابة المالية، واستغلال النظام المالي الدولي عبر شركات وهمية وحوالات غير خاضعة للرقابة، إضافة إلى التداخل بين الجريمة المنظمة والإرهاب، الذي تُستخدم فيه أرباح الجرائم التقليدية كموارد لتمويل الأعمال الإرهابية. وتـزداد الصعوبة في إثبات هذه الجرائم وملاحقتها قضائيًا في ظل غياب الأجهزة المستقلة وتعقُّد التعاون الدولي في بيئة غير مستقرة.
لـمواجهة هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى مقاربات متكاملة تبدأ بتشريعات وطنية رادعة تتوافق مع توصيات مجموعة العمل المالي (FATF)، مرورًا بتعزيز التعاون الدولي عبر تبادل المعلومات المالية والاستخباراتية، وانتهاءً بتفعيل دور البنوك المركزية والهيئات الرقابية لمتابعة التحويلات المالية المشبوهة.
كـما يتعين دعم آليات المساءلة القضائية الوطنية والدولية، وتعزيز دور الوقاية المجتمعية من خلال التوعية بخطورة الانخراط في عمليات غسل الأموال أو استقبال تحويلات ظاهرها الدعم الإنساني وباطنها تمويل الإرهاب.
فـما نحب قـوله؛ لا يمكن النظر إلى معركة تجفيف منابع تمويل الإرهاب وغسل الأموال في مناطق النزاع على أنها مجرد إجراء أمني أو مالي طارئ، بل هي معركة وجودية من أجل مستقبل الإنسانية نفسه.
فـخلف مصطلحات "التمـويل" و"الغـسل" تكمن دماء الأبرياء، ودموع الثكالى، وأنقاض المدن، وطموحات شعوب أُجهضت قبل أن تولد.
كـل دولار يُغسل هو طلقة تُصوَّب نحو قلب برئ، وكل قناة تمويل غير مشروعة هي شريان حياة لنظام قائم على التوحش والخراب.
إن السـماح لاقتصاد الحرب بأن يستفحل هو استسلام طوعي لقوى الظلام، واعتراف ضمني بعجز إرادة الخير عن مواجهة شرٍّ منظم يدرك أن المال هو عصب بقائه.
لـذلك، فإن المواجهة الحقيقية لا تكون فقط بتعطيل هذه الشبكات، بل باقتلاع ثقافة الإفلات من العقاب التي تسمح لها بالازدهار.
إنـها في حقيقة الأمر، معركة في القضاء والمصارف كما هي في الميدان، وهي حرب على العقول التي تبرر وتغسل وتُموّل كما هي حرب على البنادق.
إن النـجاح في هذه المعركة المصيرية لن يُقاس فقط بعدد الحسابات المجمدة أو القضايا المحكوم فيها، بل بمقدار ما نستعيده من أملٍ لطفلٍ في مدرسة، وأمانٍ لعائلة في بيتها، وكرامةٍ لإنسانٍ سُلبت إرادته.
إنـه الاستثمار الأكثر جذرية في السلام: "سلام لا يُعلن بنصوص واتفاقيات فحسب، بل يُبنى بقطع الطريق على كل من يسعى إلى تدميره".
فـهل نترك لأحفادنا إرثًا من الحياة، أم نورثهم خرائطَ لصراعات لن تنتهي؟
السـؤال يحـتاج منا جميعًا إلى وقـفة، وإجـابة.
د. هـاني بن محمد القاسمي
عـدن: 3. أكتوبر. 2025م
.