الإمارات شريكة الاستقرار والازدهار
لم تكن السياسة في منطقتنا يوماً شأناً منفصلاً عن القيم. هكذا تشكّلت الشراكات، وهكذا صينت العهود، وهكذا فُهم معنى الوقوف مع الشريك حين ترتفع الكلفة ويثقل الحمل. في هذا السياق، لم يكن الصمت تراجعاً، بل خيار دولة تعرف متى تتكلم ومتى تترك للفعل أن يقول ما يعجز عنه الخطاب. الخلافات، حين تكون بين شركاء، تُدار داخل الإطار لا على الملأ، وتُحل بمنطق المسؤولية لا بمنطق الرسائل المفتوحة. غير أن لحظات بعينها تجعل الوضوح ضرورة، لا رغبة في سجال، بل حفاظاً على الحقيقة، وحماية لمعنى الشراكة ذاته.
ما جرى أخيراً لا يمكن اختزاله في اختلاف عابر في التقدير. الاختلاف بين الدول أمر طبيعي، بل متوقّع، لكن غير الطبيعي أن يُدار خارج أصوله، وأن يتحوّل من نقاش مسؤول بين شركاء إلى تشكيك علني، ومن تنسيق مطلوب إلى اتهام مباشر. في القضايا الأمنية الكبرى، للكلمات ثقلها، ولطريقة إدارة الخلاف تبعات تتجاوز اللحظة السياسية إلى بنية الثقة نفسها.
الحديث هنا عن شراكة مع الشريك، مركز ثقل إقليمي يدرك تماماً طبيعة الإمارات، ويعرف سجلّها، ويعي أن الإمارات العربية المتحدة لم تكن يوماً مشروع تهديد لأمن أحد، ولا طرفاً يبحث عن مكاسب على حساب حلفائه. وفي اليمن تحديداً، كان الدافع واضحاً منذ اللحظة الأولى: سدّ فراغ لو تُرك لتوسّع، ومنع انهيار لو وقع لامتدّ أثره إلى الجميع، والدفاع عن أمن مترابط لا يقبل التجزئة.
دخلت الإمارات اليمن حين كان الدخول مكلفاً، وحين كان التراجع خياراً أسهل وأقل ثمناً. قدّمت من دم أبنائها، وتقدّمت إلى مواقع لم تكن استعراضاً، بل واجباً فرضته المسؤولية. بنت حيث كان الفراغ يولّد التطرّف، وحمت ممرات ومناطق لو تُركت للفوضى لتحولت إلى أدوات ابتزاز تهدد أمن الإقليم بأكمله. هذه ليست سردية تُكتب لاحقاً، بل وقائع سبق الميدانُ السياسةَ في تثبيتها.
في ثقافتنا السياسية، من يشاركك الخندق لا يُعاد فحص نياته بعد انتهاء المعركة. ومن يضع أبناءه في خطوط النار لا يُختزل دوره في قراءة مجتزأة. ومن يتحمّل معك الكلفة لا يُفاجأ بخطاب يُدار في العلن وكأن ما سبق لم يكن. هنا لا نتحدث عن تباين في الرأي، بل عن وفاء للشراكة، قيمة لا تقبل الالتباس حين تُعرض الوقائع بإنصاف.
ومن هنا يصبح التساؤل مشروعاً: كيف يُعاد توصيف هذا الدور وكأنه تهديد لأمن الشريك، وهو في جوهره دفاع عنه؟ كيف يُتَّهم من جاء ليحمي الخاصرة ويمنع تمدد الخطر بأنه مصدره؟ وأي منطق يسمح بقلب الوقائع، فيُسأل من دفع الثمن عن نياته، بينما تُتجاهل نتائج هذا التشكيك وتداعياته؟
في الحسابات الاستراتيجية، لا تُقاس المواقف بما يُقال عنها، بل بما تُنتجه. والنتيجة المباشرة لإدارة الخلاف بهذا الشكل هي إضعاف الثقة، والثقة هي العمود الفقري لأي تحالف فعّال. ما يُعرف بالنيران الصديقة لا يصيب هدفاً محدوداً، بل يربك الردع، ويفتح ثغرات، ويمنح الخصوم فرصاً لا يدفعون ثمنها. حين تتآكل الثقة، تتقدم الفوضى خطوة، ويتراجع الاستقرار خطوة أخرى.
الإمارات لم تكن يوماً عبئاً على أحد، ولم تطلب حماية من أحد، ولم تساوم على واجب. لكنها أيضاً لا تقبل أن يُعاد التعامل مع تاريخها وكأنه ملف قابل للمراجعة الأخلاقية. منطق الشراكة واضح: من قام بالفعل يُحترم فعله، حتى في لحظة الاختلاف. أما التشكيك، فليس أداة سياسة، بل كسر للعرف قبل أن يكون مساساً بالشراكة.
العتاب هنا واضح لأنه لا يحتمل التأويل، ومسؤول لأنه لا يسعى إلى خصومة. الشراكات الكبرى لا تُدار عبر الاتهام العلني، ولا تُختبر بالضغط الإعلامي، بل تُصان بالتحقق، والتنسيق، واحترام ما قُدّم في أوقات الشدة. حين يتحرك مركز الثقل، يجب أن يتحرك بمنهج الدولة: تحقق قبل اتهام، تنسيق قبل إعلان، وتقدير للنتائج قبل إطلاق المواقف.
قد تختلف التقديرات، وقد تتباين القراءات، لكن هناك خطاً لا يجوز تجاوزه: كرامة التضحيات. هذه ليست بنداً تفاوضياً، بل أساس أخلاقي لأي شراكة حقيقية. من يظن أن التشكيك يعزز الموقف يخطئ؛ ما يعززه هو الإنصاف، وما يحمي التحالف هو حفظ المعروف، حتى في لحظة الخلاف.
وهنا، وبهدوء دولة تدرك وزنها، نقول: إن كان لا بد من إعادة تموضع، فلن يكون انسحاباً من مسؤولية، بل رفضاً لأن يُدار الواجب وكأنه موضع اتهام. نغادر إن غادرنا مرفوعي الرأس، نحمل فخراً لا يحتاج إلى تبرير، لأن ما قُدّم كان واجباً أخلاقياً، والتزاماً شريكاً، ودفاعاً عن أمن مشترك قبل أن يكون دفاعاً عن الذات.
من جاء ليحمي لا يُتَّهم، ومن دفع الثمن لا يُعاد امتحانه، ومن وقف في الصف الأول لا يُدفع إلى دائرة الشك. والتاريخ، مهما أُعيدت محاولات صياغته، لا يُكتب بالصوت الأعلى، بل بالفعل، ويحتفظ دائماً بذاكرة دقيقة تميّز بين من صان العهد، ومن اختار مراجعته بعد فوات الأوان....




