أين راتبي ومتى سيُصرف؟ "عندما يصبح السؤال عن الـراتب سؤالًا عن الكرامـة"
ثـلاثة أشهر كاملة والموظف ينتظر ما يعتبره حقًّا لا منّة؛ قوت يومه وستر عائلته، وسند حياته الوحيد "الـراتب".
لـم يعد السؤال: كـم الراتب؟ بل تحوّل إلى استغاثة وجودية: "أيـن راتبي؟ ومـتى سيُصرف؟".
لـم يـعد تأخير صرف الرواتب لثلاثة أشهر متتالية مجرد خلل إداري أو مالي عابر، بل تحوّل إلى جريمة أخلاقية واقتصادية واجتماعية في حق آلاف الأسر؛ فـالراتب الشهري لم يعد مجرد مبلغ مالـي، بل هو خط الدفاع الأخير أمام العوز، والمصدر الوحيد الذي تعتمد عليه الأسر في تدبير شؤونها المعيشية الأساسية.
غـياب الـراتب لهذه الفترة يعني ببساطة: أبواب بيوت تُغلق، موائد فارغة، وكرامة تُستنزف في سبيل لقمة العيش.
إنها كارثة صامتة، لا يُسمع صداها في القاعات الرسمية، لكنّ آثارها العميقة تنعكس على حياة الأسر واستقرار المجتمع بأسره.
الأسـرة تـبدأ في استنزاف مدخراتها المحدودة، ثم تلجأ إلى الاستدانة، لتدخل في دوامة من الالتزامات يصعب الفكاك منها.
وراء كل راتـبٍ لـم يُـصرَف:
- "أب" يُخفي ساعات اليأس خلف نظارته، ويُحصي قرشًا لم يعد موجودًا.
- "أم" تُقلّل من قيمة الطعام كي لا تُقلّل من قيمة أطفالها في أعين أنفسهم.
- "عـائلة" تبيع من أثاث ذاكرتها كي تشتري قوت يومها.
المفارقـة الغريـبة أن الموظف لا يزال ينهض كل صباح، يزرع في أرض لم تعد تُثمر له إلا الوعود؛ فهو يقدّم ولاءً لا يُقابَل بوفاء، ويبذل جهدًا لا يُقابَل باحترام. يسأل عن حقّه فيُتّهم بالسلبية، وهو الضحية التي ما فتئت تقدم الدليل على التزامها.
هـذا التأخـير هو، فوق كل شيء، خيانة صامتة لفكرة "الدولة" نفسها؛ فـالدولة، في أساسها العقدي، هي المظلة الضامنة للكرامة، فإذا تخلّت عن هذا الدور، فماذا تبقى منها سوى هيكل إداري أجـوف؟
الـنداء اليـوم، ليس من أجل "صـرف رواتـب". الـنداء هو من أجـل "وقـف نزيـف الكرامـة"؛ إنه استغاثة لإنقاذ فكرة "العـدالة" من الانهيار، فـالحياة لا ينبغي أن تكون بمثابة مقامـرة بشهر بعد شهر، والكرامة ليست رهينة لحسابات جافـة.
الـراتـب، في نهاية المطاف، ليس مجرد مـال، إنه رسالة اجتماعية مفادها: "أنت ذو قيمة، وعملك مُقدَّر، وأسرتك مُحترمة".
وعندمـا تختفي هذه الرسالة، فإن ما ينهار ليس فقط القدرة على الشراء، بل الإيمان ذاته بمعنى الوطن.
وهكـذا، يتجاوز هذا التأخير في صرف الراتب كونه مجرد أزمة مالية عابرة، ليصبح "ناقـوس خـطرٍ يدقّ في صميم المشروع الوطني نفسه". فـهو يُحدث شرخًا جوهريًا في العقد الاجتماعي غير المكتوب، الذي يقوم على أن الدولة حاميةٌ للكرامة وضامنةٌ للحد الأدنى من الاستقرار.
عندمـا يتحول الموظف الملتزم، الذي يبذل وقته وجهده، إلى متسوّلٍ يتردّد على أبواب الدائنين، وإلى محاسبٍ يخشى نظرات أبنائه، فـإنّ الثمن الذي ندفعه جميعًا ليس ماليًا فحسب، بل هو "إفقارٌ للروح الجماعية"، وتآكلٌ للإيمان بالمستقبل المشترك.
المـسألة ليست مجرد أرقام في سجلات، بل هي "أرواح تُحاصَر، وأحلام تُؤجّل، وكرامة تُباد".
وإذا كان السـؤال اليوم هو "أيـن راتبـي؟"، فإن السؤال الأكثر قتامةً وغدًا سيكـون: "أيـن وطـني؟".
فـالأوطان لا تُبنى بموازناتٍ متوازنةٍ فحسب، بل تُبنى أولاً وأخيرًا بكرامـة مواطنيـها.
د. هـاني بن محمد القاسمي
عـدن: 20. سبتمبر. 2025م
.