الحب بين الأوهام والواقعية والخيانة والوفاء.. 

 من فتحي أبو النصر إلى نفسه ..

في عيد الحب..وفيما تنبض القلوب بالوعود والتمنيات، تجلس الروح على حافة التجارب، تتأمل في ماهية الحب وتجلياته. ومع كل عام يمر، يزداد وضوح الفهم: الحب ليس سوى خيال مرهق طويل الأمد، أملٌ معلق على أكتاف الحقيقة القاسية..

واليوم، ها أنا أقرر أن أوجه رسالة شفافة إلى نفسي، في محاولة لاستكشاف تلك المشاعر المتناقضة التي أعجز عن فهمها بشأن الحب..

طبعا في كل زمان ومكان، عُرِّف الحب بأنه شعور نبيل، يرتبط بالعطاء والتضحية. لكن مع مرور الزمن، يظهر الوجه الآخر لهذا الشعور: الخيبات التي لا تُحصى...

ومن هذا المنطلق، يصبح الحب في كثير من الأحيان مجرد أداة لارتداء الأقنعة.
نعم، كل من يطلب الحب، يبحث في واقع مزيف، حيث يُلبس وجهه قناعا يتماشى مع رغبات الآخرين..

و في هذا السياق، يصبح السؤال المحوري: "هل الحب حقا ما نراه؟ أم أنه مجرد بناء من الأوهام؟".

أنا من خلال تجربتي الشخصية، أجد أن الأقنعة هي الطاغية في لعبة الحب. بل كلما تصاعدت المشاعر، كلما ظهرت هذه الأقنعة أكثر وضوحا، وكلما خُدعت أكثر بمظاهر الأشياء..

أعني أنه في الحب، يبحث الإنسان عن الكمال، لكنه لا يلتفت إلى الحقيقة.. إذ ما يراه هو ما يريده أن يراه، وعادة ما يتمسك بما يعزز هذه الصورة في ذهنه. لكن الحياة، كما هي، لا تشي إلا بالحقيقة الخام..

وهكذا ، فمن خلال تقلبات التجربة الحياتية، لا أجد من يظل صادقا مع نفسه في هذه اللعبة. فكل واحد منا يضع ستارا أمام عينيه ليخفي ضعفه، خوفا من مواجهة الحقيقة..

أنا نفسي، وحتى في أعمق حالات الحب، أجد أنني أُخفي شيئا مني عني وعنكم، وأخشى من أن تكتشفه تلك التي أحاول إيهامها بصدق مشاعري..

فلماذا يصبح الحب حيلة لتكريس الأوهام.
في الحقيقة ومن خلال تلك النظرة المتمردة، أقول: لا تثقوا في أحد. لا تثقوا حتى في أنفسكم. بل على كل رجل الا يثق بأي إمرأة وعلى كل إمرأة الا تثق بأي رجل.
فالحب في جوهره ليس سوى نتاج تفاعلات معقدة بين كيمياء النفس البشرية. بل هو، في النهاية، مزيج من الرغبات والأوهام. أي عندما يتعلق الأمر بالأشخاص، حتى الأكثر حميمية، ستكتشفون أن جميعنا، في مرحلة ما، نكون ضحايا لتلك الأقنعة..

لكن في هذا الواقع، أعود إلى نفسي. أنا الذي تعودت أن أكون محاربا، أسير في الحياة بمبدأ الكرامة والقيم. وعلى الرغم من تعثري في مسارات كثيرة، أفهم أخيرا أنني لا أحتاج إلى الحب لكي أكون كاملا. 
فكم كنت أبحث عن هذا الشعور، أظن أنه سيكملني، لكنني اكتشفت أن الحب ليس أساسا للوجود، بل هو مجرد إضافة، غير ضرورية أحيانا..

وفي الحقيقة أخذتني مسيرتي الطويلة في الحياة إلى المكان الذي أنا فيه الآن: ليس بعيدا عن الآخرين فحسب، بل بعيدا عن نفسي، عن كل المفاهيم التي كنت أعيش من أجلها..

والآن، في عيد الحب، أجد أن أصدق هدية يمكن أن أهديها لنفسي هي أن أعيش بواقعية، وأسمح لنفسي بمغفرة ما مضى، وأسمح لي بالمضي قدما بعيدا عن خرافات الحب والخيبة..

فمن فتحي أبو النصر إلى فتحي أبو النصر، أدرك أنني أنا من يجب أن أحب نفسي أولا، وأقبلها بكل نقائصها. إذ لا حاجة لي للبحث عن حب خارجي لإثبات وجودي، لأنني أملك القوة لأن أحب نفسي بكل حالاتها..

أو بمعنى أدق يبقى الحب هو الطريق الذي يقودنا إلى التحول، إلى النمو، وليس بالضرورة عبر عيون الآخرين، بل عبر أعيننا، عندما نكتشف أن الحب ليس سوى مرآة تُظهر لنا حقيقتنا الكاملة..

ومع ذلك، أقول لكل من يعيش في أمل أو خيبة: لا تهدروا وقتكم في البحث عن الحب في مكان خارجي. ابدأوا من الداخل، حيث الحب الحقيقي يولد.
لكن في عالم تسوده الخيانة، حيث تتلاطم أمواج الحياة، نجد أن الخيانة قد أصبحت، للأسف، سمة من سمات العصر لطخت الحب مراراً..

غير أنها ليست الخيانة التقليدية التي يتوهمها الناس، بل تلك الخيانة التي تُقدم تحت غطاء الوفاء، في تماهيات غير مسبوقة بين النفاق والصدق..

وبالتأكيد فإن هذه الخيانة تليق بأولئك الذين يدعون الحب، وهم في الحقيقة يحرفون المعاني التي يقدسونها. 
لكن لنتأمل كيف يمكن للإنسان أن يخون بوفاء منقطع النظير..

ربما هي الخيانة بين الوفاء الوهمي والتناقض الوجودي..

والشاهد أن الوفاء يعرف بأنه الإخلاص التام، والالتزام العميق تجاه الآخر.
 لكن في واقعنا المتشيء، تتخذ الخيانة شكلا متشابكا مع الوفاء..

فيما هذا النوع من الخيانة بلاشك لا يتحقق في اللحظة التي يفقد فيها الشخص الآخر الثقة، بل يتم داخل النفس البشرية قبل أن يظهر في الواقع الملموس. 
أي إن الخائن رجلا كان أم امرأة لا يخون لسبب عابر، بل لأن عقله يعيد تركيب الواقع بطريقة تمكنه من خداع ذاته قبل خداع الآخرين. وبذلك تصبح الخيانة شعورا داخليا محاصرا بين شريعة أخلاقية تم تعديلها لتناسب رغباته فيشعر بالطمأنينة..

بل من هنا فإن فكر نيتشه يقدم لنا مفتاحا لفهم هذا النوع من الخيانة. يقول نيتشه: "الإنسان هو شيء يجب أن يتجاوز نفسه". ولكن كيف يتجاوز الإنسان ذاته عندما يكون محاصرا بنماذج مثالية كاذبة؟..

حتما أن نيتشه بعبارته تلك كان يدرك أن الإنسان، في سعيه لتحقيق الكمال، قد يتحول إلى وحش يساوم بين القيم العليا وبين رغباته الشخصية. وفي خيانة كهذه، ينفي الشخص ذاته، كما لو كان يتنصل من إرادته الحرة ليصبح مجرد تابع للأوهام.
أما سارتر، فقد اعتبر الإنسان "محكوما بالحرية"، أي أنه لا يستطيع الهروب من اختياراته..

وفي هذا السياق، نجد أن الخيانة ليست مجرد فعل طائش، بل هي اختيارات واعية، تؤكد حضور الإنسان في عالم يفتقر إلى المعنى الثابت. فالخيانة، بالنسبة للسارترية، ليست موجهة ضد الآخر فحسب، بل ضد الذات. هي فعل يدرك فيه الفرد جيدا أنه يضحي بجوهره الداخلي لتحقيق شيء مؤقت، وفي هذه اللحظة يزيف الحقيقة. فيما لا يمكن للخائن أن يدعي البراءة أو الوفاء؛ لأنه في كل مرة يختار الخيانة، يختار رفض وجوده الأصيل..

نعم، إن الخائن -رجلا كان ام إمرأة ـ الذي يزعم الوفاء هو الذي يكذب على نفسه أولا، يحاول أن يلبس قناع الفضيلة بينما هو في الواقع فاسد في داخله..

كذلك فإن الخيانة تبدو بهذا السياق هي الطريقة  الإجبارية للهروب من مواجهة الذات. وفي هذا، يتماهى الخائن مع وجوده الوجودي الممزق. فهو لا يواجه خوفه من الفراغ، بل يعيد بناء معنى الحياة من خلال الأفعال التي تحاول إخفاء هشاشة الروح. بمعنى أن كل خيانة، بالواقع، هي تعبير عن اضطراب داخلي يرفض التسليم الكامل للآخر، ورفض التنازل عن صورة الذات المثالية.
كذلك، فإن الخيانة التي تأتي مصحوبة بالوفاء الزائف هي في النهاية نتيجة لتلاعب العقل البشري بالحقائق والمشاعر. فلا يمكن للفرد أن يهرب من كونه "الآخر" في هذا العالم المتشيء، ولا يمكنه أن يتنصل من مسؤولية اختياراته..

بمعنى آخر فإن ما يجب أن نعيه هو أن الخيانة لا تتعلق فقط بالآخرين، بل أولا بالذات، وتحقيق السلام الداخلي يتطلب مواجهة أعمق وأكثر صدقا مع ما نقوم به في حياتنا. فيما الخيانة تبدو في جوهرها هنا ، كمعركة نفسية وجودية بين الفرد وقيمه، وهي، كما قال نيتشه، معركة لتجاوز ما يظنه "المثال" وما هو حقا موجود..

عموما :
"عيد حب سعيد... لنفسي، وللعالم"..