الجنوب العربي بين شرعية الواقع وشرعية القانون.




✍️???? : عبدالمجيد زبح 


نقف اليوم بين واقعٍ يفرض نفسه بقوة الميدان، وقانونٍ ينتظر توقيع لحظة الميلاد؛ مرحلة لا تقبل التردد ولا الالتفاف، يتصارع فيها الممكن والمرغوب، ويُعاد فيها تعريف السلطة والحدود والمصير. ففي هذه اللحظة الدقيقة من تاريخ الجنوب العربي، يتجاوز المشهد حدود التنافس المحلي ويتحول إلى معركة شرعية مزدوجة بين شرعية الواقع التي فرضها الميدان، وشرعية القانون التي تنتظر قراراً سياسياً يرسّخ واقعاً جديداً في الإقليم. المجلس الانتقالي الجنوبي بات يقود المشروع الوطني الجنوبي باعتباره القوة الأكثر تنظيماً وصلابة وقدرة على إدارة رقعة جغرافية معقدة، فيما تقترب لحظة اتخاذ القرار النهائي المتعلق بفك الارتباط، وهي لحظة تتطلب تقديراً سياسياً مسؤولاً يراعي توازن الداخل وحساسيات الإقليم، أكثر مما تعتمد على فائض القوة العسكرية.

التحدي الداخلي لا يرتبط بجغرافيا أو خصوم، بل يرتبط بقدرة الجنوب على إدارة ما بعد السيطرة. هنا يتحول الأمر من معركة مواقع إلى معركة مؤسسات. والمطلوب من القيادة الجنوبية اليوم صياغة نموذج إدارة، وبناء مؤسسات مستقرة، وخلق واقع إداري واقتصادي قابل للدوام. ولكل نجاح ثمنه، فشرعية القوة تحتاج شرعية الإنجاز، وشرعية الأرض تحتاج شرعية إدارة الناس. فقد تمكن الجنوب من تثبيت سيطرته على كامل الرقعة الجنوبية تقريباً، ولم يبقَ بينه وبين الإعلان السياسي إلا حسابات القيادة مع شركاء الإقليم، لا خوفاً منهم بل إدراكاً لمقتضيات اللحظة.

وعندما نصل إلى الإقليم، لا يمكن تجاهل الدور السعودي. المملكة ليست طرفاً عادياً في اليمن ولا في المنطقة؛ إنها القوة التي تحدد سقف الحركة السياسية والعسكرية، ولها القدرة على إعادة تعريف موازين الصراع دون إطلاق رصاصة واحدة. فالسعودية بثقلها الإقليمي والدولي ليست دولة تأثير فقط، بل دولة قرار، وعرّاب استقرار، وهي الكيان الذي تتحرك القوى الدولية والإقليمية وفق إيقاعه. ويكفي أنها صاحبة المبادرات التي غيّرت مسار الأزمات العربية خلال العقد الماضي، وصاحبة دور محوري في إعادة هندسة علاقات الشرق الأوسط، وصاحبة حضور اقتصادي قادر على نقل دول من حافة الانهيار إلى استقرار القوة. وهذه الدولة لا تتعامل مع اليمن بوصفه ساحة نفوذ، بل بوصفه حاجزاً استراتيجياً، عمقاً أمنياً، وساحة منع الانهيار.

السعودية منذ 2015 لم تستخدم قوتها العسكرية والسياسية لفرض مشروع طرف على آخر، بل لتحمي اليمن من التحلل الكامل. لقد استخدمت قوتها العسكرية والمالية والدبلوماسية لتمنع انزلاق البلد إلى صراع أهلي شامل. وكانت قادرة على اختيار طرف واحد وإنهاء اللعبة، لكنها لم تفعل لأن مسؤولية الدولة ليست المغامرة بل إدارة التوازن. وبعد 2020 تحولت إلى وسيط لا ينحاز لكنه لا يسمح بالانهيار. تعمل على تقريب المسافات، وإنتاج حل شامل، وتفرض على الجميع أن يتحدثوا لغة الحوار مهما كانت خلافاتهم.

أما الإمارات فكانت واضحة في دعمها للمجلس الانتقالي كشريك موثوق وصاحب مشروع منضبط، بينما السعودية لعبت دوراً مختلفاً: دور الضامن لا الشريك، ودور الوسيط الذي يفرض احترام القانون الدولي لا حسابات الرغبة. النخبة السياسية اليمنية وبالذات النخبة الشمالية التى لم تفهم هذه الحقيقة بعد. يقتربون من الرياض بوهم الدعم المطلق، فإذا لم تتحرك المملكة وفق مصالحهم الظرفية تحولت في خطابهم إلى خصم. وهذا العجز في فهم قواعد الدولة يجعلهم يتخبطون: دولة بحجم السعودية لا تتحرك بمنطق التحالفات .

ولعل ما يعزز مشهد الجنوب أكثر هو وضوح مشروعه. منذ اللحظة الأولى أعلن هدفه: استعادة دولة الجنوب. لم يخف مشروعه ولم يناور به، بل تقدم خطوة بعد خطوة، وخلق واقعاً سياسياً وأمنياً واجتماعياً. بينما انزلقت القوى الشمالية في مقبرة الفراغ السياسي. نخب مفككة، مهزومة الإرادة، بلا مشروع، وبلا رؤية، وبلا أدنى استعداد لتحمل مسؤولية وطن. نخب تعيش خارج اليمن، ترفع شعار العودة إلى صنعاء وهي عاجزة عن الاقتراب من كيلو متر واحد في محيطها الجغرافي. نخب تريد من السعودية أن تهزم الحوثي نيابة عنها، وأن تعيد لها سلطة انهارت بسبب فسادها وجمودها، ثم تتحدث عن الشرعية وهي آخر من يملك أهلية ممارستها.

وهذه النخب لا تبحث عن مشروع دولة، بل عن كراسي وامتيازات. لا تفكر في تحرير صنعاء، بل في ضمان رواتب بالدولار. لا تمتلك خطة عسكرية، ولا رؤية اقتصادية، ولا خطاباً وطنياً. تتصارع في الخارج على الفنادق، وتترك الداخل رهينة الحوثي. ثم ترفع شعار الوحدة فيما هي عاجزة حتى عن توحيد فصيلين في غرفة اجتماعات. والأخطر أن هذه النخب أصبحت تخاف من مشروع الجنوب لأنه يفضح عجزها الوجودي: الجنوب لديه هدف، والشمال لديه فشل. الجنوب لديه رؤية، والشمال لديه أعذار. الجنوب لديه مؤسسات تتشكل، والشمال لديه بيانات بلا أثر.

المجتمع الدولي يقرأ هذا. وكل بيان خارجي حول الجنوب يحمل مزيجاً من الفهم والتخوف. يفهمون التحول الجنوبي باعتباره نتاج واقع سياسي، ويتخوفون من الصدام باعتباره عنصر اضطراب في منطقة مشتعلة. ولذلك تأتي الدعوات دائماً لوقف التصعيد لا لأنها ترفض الواقع الجنوبي، بل لأنها تخشى الانفجار الكامل للمشهد اليمني. وهذا يفرض على الجنوب اليوم أن ينتقل من خطاب القوة إلى خطاب الطمأنة المدروسة.

والمرحلة المقبلة لا تحتاج جيوشاً، بل تحتاج وفوداً. وفد رفيع إلى الرياض لوضع مخاوف المملكة على الطاولة: حضرموت والمهرة، الحدود، أمن البحر العربي، مستقبل ما بعد فك الارتباط. المطلوب تقديم ضمانات صادقة تؤكد أن الجنوب لا يهدد أمن المملكة بل يشكل امتداداً لاستقرارها. السعودية لا تتمسك بوحدة اليمن، لأنها ليست من وحد اليمن حتى تصبح وصية على وحدته. وهي لا تعارض فك الارتباط، لأنها ليست من سيقرر نيابة عن اليمنيين. ما تقوله المملكة واضح: مشكلات اليمن يحلها اليمنيون، والشرعية يجب أن تعود إلى صنعاء، وهزيمة الحوثي هي أولوية الأمن الاستراتيجي. وهنا يجب أن يُقال للسعوديين بوضوح: ما تعتبره المملكة خطاً أحمر يمكن مناقشته بضمانات، وعلى النخب الشمالية أن تتجه لتحرير صنعاء بدل النوم تحت سقف العواصم.

ووفد آخر إلى مسقط، المدينة التي تفكر ببرودة سياسية. المطلوب طمأنة الدولة التي ترتبط بالحدود والمصالح الإقليمية، والتي تريد دولة جنوب مستقرة لا مشكلة على حدودها. السلطنة لا تبحث عن صراع بل عن علاقة هادئة ذات وزن.

في النهاية ليس الجنوب هو المشكلة. الجنوب لم يبع وطنه، ولم يهرب من مواجهة الحوثي، ولم يتاجر بجوازه في الخارج. الخلل الحقيقي في الشمال — في نخبة مشوهة لا تملك مشروعاً ولا رؤية، عاجزة عن تحرير مدنها، ولا تعرف من العمل السياسي سوى الانتظار. نخبة تمسك الميكروفون وتشتم الواقع، لكنها لا تجرؤ أن تقترب من صنعاء. نخبة تحارب كل مشروع قوي لأنها تخاف المقارنة. نخبة لا تستحق أن تصنع مستقبل بلد لأنها تسببت في سقوطه.

أما الجنوب، فقد حجز مقعده في التاريخ المقبل. يقف اليوم على تخوم الاعتراف بشرعية الواقع، وما بين الواقع والقانون هناك خطوة واحدة: القدرة على تقديم ضمانات حقيقية لشركاء الإقليم. وحين يحدث ذلك، سيصبح القرار مسألة وقت لا صراع. الجنوب يمتلك إرادة ودولة قادمة، والشمال يمتلك ذاكرة انهيار. وحين يصل التاريخ إلى هذه النقطة، لن يرحم الضعفاء، ولن ينتظر العاجزين. الجنوب يتحرك، والشمال يتعثر. ومن يتحرك يكتب التاريخ، ومن يتعثر يصبح تعليقاً في هامشه.