لسنا ضفادعاً ولستم فيلةً  كلنا مواطنيين..


بروفيسور / قاسم المحبشي ...

( الشعوب التي لا تقاتل من أجل مؤسستها العامة أكثر من دفاعها عن اشخاصها لن تجد من يحميها ويهتم بأمرها)

لقد كانت السلطة السياسية والتحكم بادارتها بحنكة وبراعة ولازالت هي قطب الرحى في تاريخ الحضارة البشرية كلها. ولا شيء أهم ولا اعقد واخطر منها ابدا. انها الضرورة الحاضرة الفورية المباشرة في كل زمان ومكان يوجد في الإنسان إذ ظلت السياسة على مر الأزمان هي الزمن الذي لا يمر بمعنى أن الوجود السياسي للناس في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية، وفي الظروف الاستثنائية تحتم الضرورة السياسية الملحة تشكيل السلطة كيفما اتفق بلا معايير ولا شروط ولا آليات واضحة وذلك في سبيل سد الفراغ الذي هو مطمع كل القوى المتربصة وأثناء تلك العملية المستعجلة يكون للعلاقات الشخصية دورا مؤثرا في اختيار الاشخاص المرشحين لشغل المناصب الشاغرة..

 إذ إن الأمر مرهونا بخبرة وحكمة وحنكة الزعيم القابض على القرار وسعة أفقه ونفاد بصيرته وقدرته على المفاضلة بين الاشخاص الجديرين بإشباع الوظيفة وأدارة المؤسسة المعنية بكفاية ونجاح بالقدر الممكن الذي يحفظ هيبة المؤسسة وكرامتها أقصد القائد بالمعنى الذي وصفه نيلسون مانديلا في كتابه المهم، دروب الحرية، إذ كتب  " على القيادي المحنك ان يكون مثل الراعي يسير خلف القطيع , ويدفع الى المقدمة أوفرها قوة وصحة و سرعة وخفة وذكاء ورشاقة وقدرة على الحركة والاستدارة , دون ان تدرك انه يقودها من الخلف ) طبعا من الطبيعي أن تحدث في اثناء تلك ترتيبات السلطة الانتقالية المستعجلة الكثير من الاخطاء والهفوات بسبب عدم وجود مؤسسة المؤسسات الوطنية الجامعة ومن ثم غياب تقاليد المعايير الموضوعية في اختيار الكفاءات المناسبة لادارة المؤسسات المعنية وفقاً لمبدأ ( الشخص المناسب في المكان المناسب!) كأنا يطلع أحدهم ليس لديه اي علاقة أو خبرة أو دراية علمية أو عملية في ادارة مؤسسة مثلا تجيب شخص لا يعرف البحر يقود سفينة!أو تأتي بمدير لمصنع الادوات المدرسية وهو لا يعرف المدرسة ذاتها ما بالك بادراتها؟ أو شخص لوزارة الثقافة وهو لم يقرأ كتابا في حياته أو تجيب شخصاً مديرا للأعلام المرئي والمسموع والتلفزيون وهو لم يتخصص في هذا المجال وليس لديه أي خبرة عملية سباقة في ممارسة وهلمجرا..

 اقصد إن مثل تلك الاخطأ من المتوقع  حدوثها في الظروف الاستثنائية لكن من المهم جدا تفاديها حينما تكشف بصمت وحكمة وبلا ضجيج بحيث لا تتحول هيبة المؤسسات العامة إلى مسخرة. من الاخطاء الفادحة التضحية بالمؤسسات في سبيل اشباع رغبات ومصالح الأشخاص مهما كانوا وكانت مكانتهم وقربه من فلان أو فلتنا! المؤسسات العامة التي هي من اسمها ليس ملكية خاصة لاي أحد من افراد المجتمع بل يجب إن يحرص الجميع على حمايتها وصونها وأكثر المعنيين بذلك هم الذين بيدهم قرار امرها وأمر السلطة في بلدهم. أما افراد الشعب الذين بلا حول ولا قوة غير التنبيه والكتابة فمن حقهم النقد حينما يشاهدون تلك الانحرافات والأخطاء الفادحة في ادارة مؤسساتهم العامة وهذا هو حقهم الطبيعي جدا لأنها مؤسساتهم وشقا آباءهم وأجدادهم والنقد هو حيلتهم الوحيدة في ظل غياب الشروط القانونية الدستورية لشغل الوظيفة العامة تلك الشروط التي ترى إن المواطنين على درجة متساوية من القيمة والجدارة والأهلية ولا فضل لاحد على أحد في ذلك ابدا..

 فالمواطنة حق وليست مكرمة والعيش المشترك في دولة جامعة للمواطنين القاطنين على الأرض المتعينة لا يتحدد بانتماءاتهم الايديولوجية ومواقفهم السياسية والسؤال ليس هو من هو الوطني ومن هو غير الوطني؟ بل هو كيف يمكن للمواطنين أن يعيشون في وطنهم بكرامة وأمن وسلام؟ والذين ينتقدون الأخطاء هم أكثر الناس حرصا على مؤسساتهم وقضيتهم ومشروعهم ومن المعيب إن لا ينصت من بيده أمر تجاوز تلك الاخطأ لانتقادات الناس ومطالبهم. صدمت حينما علمت إن أحدهم يدير مؤسسة إعلامية تلفزيونية مهمة في مدينة عدن وهو ليس متخصصا بالإعلام في مدينة انجبت أفضل الكوادر الإعلامية في جنوب الجزيرة العربية من اكثر من سبعة عقود من الزمن..

الأشخاص يأتون ويذهبون أما المؤسسات فهي وحدها التي يمكنها أن تستمر وتدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحماية والرعاية والحفظ والصون. وهكذا بقت الدول التي تحكمها المؤسسات البروقراطية الحديثة مزدهرة منذ مئات السنين في العالم الحديث بينما كل النظم التي تمحورت حول الأشخاص منذورة بالخراب والزوال بزوالهم الحتمي..

 أنا أحترم الأشخاص ولكن لا أثق بقدرتهم على فعل إي شي جدير بالقيمة والاعتبار إذا كانوا لا يمتلكون مؤسسات مبنية على أسس قانونية عقلانية سليمة ! وفِي الثورات قل لي ما شعارك أقول لك من أنت وفِي السياسة قل لي ما هي مؤسستك أقول لك من أنت! والشعوب حالة ثورية عائمة وعلى النخب الفاعلة تقع مسؤولية تحويلها إلى حالة مؤسسية مستقرة ونحن الذي نقوم بشكّل مؤسساتنا باتباع جملة من القيم والاجراءات ثم تقوم هي بتشكلنا.الأشخاص يأتون ويذهبون أما المؤسسات فهي وحدها التي يمكن أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون. فكيف ما كانت مؤسساتنا نكون! وفِي عدم وجودها لا معنى للكلام واللف والدوارن ودمتم بخير وسلام!ً..

ختاما اكرر القول: 

إن الممارسة هي الجزء المحتجب من جبل الجليد؛ جليد الوجود السياسي للناس في مجتمعهم وعلاقات القوة واستراتيجياتها المعلنة والمضمرة المهيمنة في حاضرهم الفوري المباشر  حيث تتقد الحياة بلا مزايا أقصد تلك الحياة التي نمنحها تسعة أعشار وقتنا، الذي نعيشه في عالمنا الواقعي المعيشي الحي الفوري، بلا ماض ولا مستقبل، عالم اللحظة الحاضرة الراهنة المباشرة، عالم الحياة، وتدفقها بـ ملموسيتها وكليتها، أي الحياة اليومية البسيطة المملوءة بالانشغالات الروتينية، والمتطلبات المعيشية الملحَّة الصغيرة، والروتينية، التي تستغرق الكائن الاجتماعي الساعي إلى إشباع حاجاته بمختلف الوسائل والسبل والحيل، والتقنيات، والعادات والتقاليد، والأساليب والصراعات، والرهانات والتفاعلات، والنجاحات والإخفاقات، والمكاسب، وكل أنماط العلاقات والممارسات اليومية، التي ننهمك فيها وتشكِّل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمَّته، أي الحياة بلا مزايا، التي يسمِّيها عالم الاجتماع جلبر دوران بـ «الجو الخانق» إنها ما نعيشه لحظة بلحظة في عالم الممارسة الفعلية؛ إذ هي ليس مثالاً غامضاً أو أرضية تحتية للتاريخ أو محركاً خفياً بل هي ما يفعله الناس حقاً وفعلاً في عالمهم المعيش فالكلمة (الممارسة) كما يقول الفرنسي بول فين " تعبر بوضوح عن معناها  وإذا كانت بمعنى من المعاني (محتجبة) كالجزء المحتجب من جبل الجليد" فتلك هي وظيفة السياسة بوصفها علاقات قوى إذ "طويلاً ما أخفت السياسة عني السياسي" إنها تخفيه، ليس بمعنى ما يخفي القطار قطاراً آخر، بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكة التي يجري عليها. هناك مسافات كثيرة وفضاءات متعددة وأسطح مختلفة ولكن هنا سكة حديد واحدة مهيأة لسير جميع القطارات" تلك السكة هي تاريخ القوة واحتدامها في كل لحظة من لحظات سيرورة الحياة الاجتماعية للناس الساعيين لتحقيق مصالحهم الحياتية في عالمهم المحكوم بعلاقة القوة والهيمنة والتنافس والصراع الدائم المستمر بين الافراد الجماعات والشعوب والحضارات... 

(والشعوب التي لا تقاتل من أجل مؤسستها العامة أكثر من دفاعها عن الاشخاص الذين يديرونها لن تجد من يحميها ويهتم بأمرها)..