المعـلم بلا راتـب، والموظـف بلا راتـب " فـمن يدفـع الثـمن"

اليـوم، يقف المعلمون - مهندسو العقول وصنّاع المُستقبل - على أعتاب إضراب جديد، ليس لأنه خيارٌ مفضّل، بل لأنه الصرخة الأخيرة بعد أن نضب صبرهم وتهاوت قدرتهم على الصمود تحت وطأة أزمة رواتب مزمنة.

     لـقد أصبح استمرار العملية التعليمية دون راتب منتظم ضربًا من الاستنزاف الممنهج للطاقات البشرية، مما يهدد بانهيار أحد أهم أركان الدولة الحديثة "التربـية والتعـليم" .

     هـذه ليست مـعادلة افتراضية، بل هي واقع مرير يعيشه آلاف الأسر؛ تشير تقارير اقتصادية إلى أن تأخر صرف الرواتب لأشهر لا يؤدي فقط إلى تدهور القوة الشرائية، بل يدفع بأسر كاملة تحت خط الفقر، مما يخلق بيئة خصبة للقلق الاجتماعي ويهدد الاستقرار الأسري، الذي هو اللبنة الأساسية لأي مجتمع.

     لكـن السـؤال الأكثر إيـلامًا يتعلق بالضحية الأبرياء: ما ذنب أبناء هؤلاء الموظفين الذين يجلسون على مقاعد الدراسة؟ هل من العدالة أن يُحرم الطالب من حقه الأساسي في التعليم الجيد بسبب أزمة مالية هو ضحيتها الأولى والأخيرة؟ 
     هـنا تتحـول الأزمة من مشكلة مالية إلى أزمة أخلاقية وإنسانية، حيث يُعاقب التلميذ مرتين: مـرة بفقر أسرته، ومـرة بتعليم مُعرّض للانهيار.

     إن الإضـراب، في هذه الحالة، ليس ترفًا أو تعطيلاً متعمدًا، بل هو آلية دفاع مشروعة كفلتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والعمل، للاحتجاج على واقع لم يعد يُطاق؛ لكن المأساة الحقيقية تكمن في أن الضحية المباشرة ليست الحكومة الغائبة عن معاناة شعبها، بل مستقبل البلاد نفسه المتمثل في جيلٍ قد يفقد ثقته في قيمة العلم والمعرفة. 

     نحـن أمام حلقة مفرغـة: معلم مظلوم لا يستطيع العطاء بلا أجر، وموظف مظلوم لا يستطيع توفير متطلبات تعليم أبنائه، وطـفل ضائع بينهما، محكوم عليه بإرث من الجهل قد يكرّس دائرة الفقر لسنوات قادمة.

     إن استـمرار هذه المأسـاة يفرض علينا الانتقال من مرحلة الصمت إلى مرحلة البحث عن حلول هيكلية وجذرية؛ حلول لا ترقّع المشكلة بل تعالج جذورها، من خلال إقرار موازنات عادلة تضع القطاع التعليمي والموارد البشرية على رأس سلم الأولويات، وتضمن كرامة المعلم وحق الموظف في العيش الكريم، وحق الطفل في تعليم متكافئ الفرص.

     غـير أن المفارقة المؤلـمة التي تزيد الجرح نزفًا، هي استمرار صدور قرارات التعيينات الجديدة في المناصب العليا، بما تتضمنه من رواتب ضخمة وامتيازات واسعة، في وقت يعاني فيه أساس المجتمع من الإهمال؛ هـذه المفارقـة الصارخـة، ليست مجرد إهانة للضمير الجمعي، بل هي دليل على خلل عميق في أولويات الإنفاق وسياسات إدارة المال العام.

     وهـكذا، تتحول أزمـة الرواتب من مشكلة مـالية عابرة إلى زلـزال يهز أركان المستقبل نفسه، فبين مطرقة معلم محروم من أجرته، وسندان طالب محروم من حقه، تتهشم العملية التعليمية برمتها، والثمن لا يدفعه سوى ذلك التلميذ الذي قد يجوع اليوم ليفهم درس الغد.

     إنـها مـعادلة قـاسية تُحاسب فيها البراءة على أخطاء لم ترتكبها؛ فالاستثمار في التعليم هو استثمار في الأمن القومي والتنمية المستدامة، والمعلم الذي يبني العقول أولى بالاستقرار المالي من أي إنفاق آخر. 

     فـالخيار واضـح: إما أن ندفع ثمن بناء العقول اليوم، أو أن ندفع ثمن مواجهة آثار الجهل غدًا، والفاتـورة ستكون أعـلى بـكثير.

     فـإن إنصاف المعـلم والموظـف ليس منّةً أو هبة، بل هو استحقاق واجب واستثمار حقيقي في رأس المال البشري، الذي يُعتبر الثروة الحقيقية لأي أمة تُريد أن تحجز لها مكانًا تحت الشمس، وإن تجاهل هذه المطالب العادلة هو استهتار بمستقبل البلاد وتفويت لفرصة تاريخية للبناء. 

     آن الأوان لوضـع الإنسان البانـي في قـلب الاهتمام، وإعادة ترتيب أولوياتنا الوطنية بما يخدم الصالح العام، قبل أن نصل إلى نقطة اللاعـودة، حيث لا يعـود هـناك جيلٌ يُبنى، ولا مستقبلٌ يُنـتظر.


د. هـاني بن محمد القاسمي
عـدن: 13. سبتمبر . 2025م
.