مدرسة التاريخ الجديد؛ ثورة منهجية في الدراسات التاريخية ..

مدرسة التاريخ الجديد؛ ثورة منهجية في الدراسات التاريخية ..

كتب / الدكتور قاسم المحبشي..*

عرّف المؤرخ الإنجليزي هاري المر بارنز (التاريخ الجديد) بأنه: "طريقة العرض التاريخي التي تحاول بصفة عامة أن تعيد صياغة تاريخ الحضارة ككل بوصفه على حد قول الاستاذ روبنسون – كل ما نعرفه عن كل شيء فعله الانسان أو فكر فيه أو أمل فيه أو حلم فيه..

ويعد الأمريكي جميس هارفي روبنسون، الذي ورد اسمه في هذا التعريف أول من استخدم مصطلح التاريخ الجديد إذ كان قد نشر كتاباً في نيويورك في عام 1912 يحمل أسم (التاريخ الجديد) جاء فيه: "ان الانسان ليجد عزاءاًً وراحة عقلية في ترك أي محاولة لان يعرف التاريخ وأن يقنع باعتبار: مهمة المؤرخ أن يكشف أي شيء عن ماضي الجنس البشري يعتقد أنه شائق أو مهم يستطيع أن يضع يده على مصادر المعلومات عنه"وقد أوضح الاستاذ بارنز أن ما هو جوهري في هذا التعريف لمصطلح التاريخ الجديد أنه يؤكد على البحث عن الأصل (Genetic Orientation)، كالبحث عن أصل الانسان وتطوره، وأصل التنظيمات الحضارية وتطورها..

ومن هنا، فانه يرى أن على المؤرخ الذي يسعى لكتابة التاريخ على وفق هذا التصور الجديد أن يكون لديه إلمام كامل بطبيعة الانسان وعلاقته ببيئته الطبيعية والاجتماعية الامر الذي يمكنه من معالجة مشكلة إعادة صياغة الاوجه المختلفة لتاريخ الحضارة..

 وفضلاً عما تقدم، فإن على المؤرخ أن يتلقى تدريباً مناسباً لتحليل التطور في النظم، وهو التطور الذي يحفظ سجل سيطرة الانسان تدريجياً على بيئته المادية ونجاحه المضطرد في تنظيم الجهود التعاونية لبني جنسه. وهنا يؤكد الاستاذ بارنز، أن هذا النوع من التاريخ الحضاري يتطلب من المؤرخ الطموح الذي يسعى للعمل في ميدانه أن يكون مزوداً بمعلومات اساسية من "علم الاحياء، وعلم الاجناس البشرية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع. كذلك، فان عليه أن يتدرب تدريباً خاصاً في العلوم الاجتماعية، وفي بعض فروع العلوم الطبيعية، وعلم الجمال الخ..

‏‎ان هذه المفاهيم الدقيقة والواضحة التي قدمها الاستاذ بارنز عن التاريخ الجديد، تفرض علينا أن نقر له بالدور الريادي في تأسيس وتطوير هذا التوجه الجديد في كتابة التاريخ. وقد أقر له بهذا الدور الريادي جاك لوغوف في كتابه المهم التاريخ الجديد بقوله: "يحيل نعت (الجديد) على (حركة التاريخ الجديد) التي انطلقت في سنة 1912 في الويات المتحدة، وخاصة إلى هـ. أ. بارنز (H. E. Barnes) الذي نشر في سنة 1919 كتاب علم النفس والتاريخ..

وعلى الرغم من هذا الاقرار الصريح بأن ريادة حركة التاريخ الجديد قد انطلقت في الولايات المتحدة ومنذ عام 1912م، فإن لوغوف يقول في هذا البحث ما نصه: "يحتل التاريخ الجديد موقعاً متميزاً في هذا الحقل المتجدد للعلوم. هناك (تاريخ جديد) وأول رواده هنري بار الذي استعمل هذه التسمية منذ سنة 1930م..

 ومن المعروف أن هذا المؤرخ هو من المؤرخين الفرنسيين البارزين. ويبدو أن الذي حمل لوغوف على تجاوز جهود رواد التاريخ الجديد في الولايات المتحدة وتركيز الانظار على أعمال المؤرخين الفرنسيين هو الاعمال الكبيرة التي قدموها في مجال التنظير للتاريخ الجديد في اطار مدرسة الحوليات، وان كانت الدقة العلمية تفرض عليه ان عطي لكل ذي حق حقه.ان مصطلح (حوليات) هو الكلمة الاولى من اسم المجلة الفرنسية التي أسسها مارك بلوخ ولوسيان فيفر: Annales de L’histoire Economique et Socials([8]) وهو يعني في اللغة العربية مجلة "الحوليات الاقتصادية والاجتماعية". وقد أسست في عام 1929. وقد لاحظ أحد المؤرخين أن منهجية هذه المجلة لا علاقة لها بمنهجية كتب الحوليات التي تعرض وقائع التاريخ على وفق التدرج الزمني للسنين كما فعل الطبري وغيره من المؤرخين المسلمين عندما ألفوا كتبهم أو كما جرى العديد من مؤرخي العصور الوسطى في أوربا على أتباعه..

ان منهجية مجلة الحوليات الاقتصادية والاجتماعية عمل يقوم على اساس عرض الاحداث عرضاً أفقياً بينما تقوم منهجية مؤرخي الحوليات على اساس عرض الأحداث عرضاً عمودياً على وفق تدرج الأحداث زمنياً. وبالنظر لأهمية الجهود التي قدمها أصحاب مدرسة الحوليات في البحث والتنظير لحركة التاريخ الجديد منذ تأسيس مجلتها في سنة 1929 وحتى الوقت الحاضر، فإننا سنعرض في المبحث الآتي أهم الأفكار والمباديء التي سعت هذه المدرسة لعرضها والدفاع عنها..

     التاريخ الجديد ومدرسة الحوليات

‏‎تتلخص المباديء والافكار التي دعت مدرسة الحوليات إلى ضرورة الالتزام بها في كتابة (التاريخ الجديد) في أربعة مباديء سنتولى عرضها بايجاز في النقاط الآتية:
1. الفهم الشمولي للتاريخ:

‏‎أوضح لوسيان فيفر وهو أحد مؤسسي مدرسة الحوليات أن الفهم الشمولي للتاريخ يتطلب من المؤرخ أن "يهتم بكل الفعاليات البشرية وكل ما في الإنسان أو يعتمد على الإنسان أو نتيجة الانسان أو يجريه الإنسان مما له أهمية في وجود الإنسان ونشاطه وأذواقه وأزيائه" ومن أجل تحقيق هذا الهدف دعا فيفر المؤرخين إلى عدم تقييد أنفسهم بالوثيقة كما كانت تستخدم من قبل المؤرخين التقليديين في تدوين الحدث المرتبط بالتاريخ السياسي..

وأكد "على أن التاريخ الجديد يجب أن يحرر نفسه من الوثائق وما تفرضه من تحديدات، وأن عليه أن يستعمل كافة ما يستعمله الإنسان: اللغة، والعلامات، وأدلة الريف، ونظم الحقول، والاساور والقلائد، وكل مصدر اخر يمكن الحصول عليه. وباختصار، فان عليه ان يكون منفتحاً لكل مكتشفات "طرق العلوم الأخرى، كالجغرافية، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس. وعلى المؤرخ في نفس الوقت أن لا ينجرف في النزعات التي برزت في العشرينات والثلاثينات – من القرن العشرين – في تقسيم نفسه إلى عدد من التخصصات (كالتاريخ الاقتصادي وتاريخ الأفكار، وغيرها) التي يسير كل منها في طريقه الخاص، ففصل التاريخ عن مضماره الاجتماعي هو أسوأ من عبث، ومن المؤكد أنه كان مضللاً...

وعلى أي حال، فان البحوث المتخصصة في التاريخ الاجتماعي أو الاقتصادي تبرز قيمتها بالدرجة الأولى في قدرتها على كشف واجبات جديدة، وسبل جديدة، في معالجة التاريخ ككل. في ضوء ما تقدم، فقد أكد فرنان بروديل – وهو من أبرز رواد التاريخ الجديد – أن التاريخ يجب أن يكون شمولياً أو لا يكون، "وهو يحتاج إلى العلوم الاجتماعية الأخرى، وقادر على تبني اشكال التفسير الجديدة التي تبتدعها هذه العلوم وتكييفها لأغراضه الخاصة. والتاريخ قادر بدوره على تقديم ما تفتقر إليه العلوم الأخرى، وهو البعد الزمني، الذي يمثل خصوصيته، ولايهم في نظر بروديل ان أتهم البعض التاريخ بأنه (امبريالي) يريد ابتلاع كل شيء"..

‏‎وقد أشار العروي إلى أن مفهوم الشمولية كما يعرضه بروديل وغيره من مؤرخي مدرسة الحوليات مستوحى من علماء الانثربولوجيا وبخاصة من الباحث الفرنسي مارسل موس الذي يرى أن "المجتمع، أي مجتمع، يكون في الحقيقة وحدة عضوية، فلا يمكن تجزئته الى قطع مستقلة تدرس كل واحدة منها على حدة. ان في قلب كل جزئية وظيفية يجب البحث عن مفعول الظاهرة الشمولية". وقد لاحظ المفكر العربي عبدالله العروي أن "كل باحث يدعي اليوم أنه متأثر بمدرسة الحوليات وأنه يكتب تاريخاً شمولياً. ومع ذلك نراه يؤرخ لمنطقة أو لحقبة، وهذه بالطبع ضرورة لا مفر منها") وهو الامر الذي فعله بروديل حينما جعل من عالم البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي على أيام فيليب الثاني – وهذا هو عنوان الكتاب الذي أصدره عام 1949 – نموذجاً تطبيقياً لكتابة التاريخ بحسب المنهجية الشمولية التي يدعو إليها..

وقد توصل بروديل من دراسته المستفيضة لهذا الموضوع إلى وجود شخصية تاريخية لهذا البحر. وقد تجلى ذلك في وحدة النظم الاقتصادية والسياسية التي سادت في معظم الدول التي قامت على شواطئه..

‏‎في ضوء ما تقدم، فقد استنتج أحد الباحثين، أن الأفق التاريخي (الشمولي) عند بروديل كانت تسيطر عليه (موضوعة الحضارة) وهي تعني عنده: "مجموعة تاريخية يشملها نمط واحد من نظم الحياة المادية والروحية، والسمة الأولى للحضارة هي أنها حقيقة واقعية ذات مدة مفرطة في الطول، وسمتها الثانية هي أنها مرتبطة أوثق الارتباط بمكانها الجغرافي"..

1. الأزمنة الثلاث في التاريخ الشمولي:

‏‎يتحدث بروديل عن ثلاثة أزمنة في الزمان التاريخي وهي: الزمان الجغرافي والزمان الاجتماعي والزمان الفردي. وفي اطار هذا الفهم تبرز "امكانية لكتابة ثلاثة تواريخ ثانوية أو فرعية تصب كلها في ذات التاريخ الأصلي (الكلي) أو (الشامل): أولها تاريخ جغرافي (يهتم بدراسة الطبيعة أو المكان كتاريخ)، ثانيها: تاريخ ظرفي اجتماعي (يعنى بدراسة المجتمع والحضارة)، ثالثها: تاريخ حدثي (سياسي). ولا يعني هذا الاخير عودة مقنعة إلى المنهج التاريخي القديم، بل التأكيد على أن ثمة شروطاً تحدد الحدث نفسه وتسمح بامكانه". وقد خلص بروديل من كل ما تقدم إلى أنه قد أنجز في كتابه (البحر الابيض المتوسط والعالم المتوسطي على عهد فيليب الثاني) تاريخاً متعدداً لكنه واحد، لأن حركته تسير من البنية، أي من شروط لامكان إلى الحدث..

هذه الخلاصة الموجزة عن التاريخ الجديد تكفي الإطلالة على ندوتنا العلمية الأولى عن دور عدن البحري عبر التاريخ إذ يمكننا تطبيق نظرية المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل في الأزمنة التاريخية الثالثة في هذه الدراسة التاريخية للمدينة البحرية العربية التي تشكّل البحر شخصيتها التاريخية عبر المدى الطويل وكان لها تاريخها الاجتماعي في المدى المتوسط وتاريخها السياسي الفردي في المدى القصير. ويعد كتاب جسر الوجدان بين اليمن والسودان للدكتور نزار غانم من أهم الأعمال في هذا الحقل المعرفي الجديد الذي بات يعرف بتيار التاريخ الجديد في الفكر التاريخي المعاصر..

 لقد أندهشت وأنا اقرأ، كتاب، جسد الوجدان؛ وتسألت مع نفسي، ياترى هل كان الدكتور نزار غانم على إطلاع عميق باتجاه مدرسة التاريخ الجديد الذي ظهر في الفكر الأوروأمريكي منذ بداية القرن الماضي وازدهر ت فيما بات يعرف ب(مدرسة الحوليات التاريخية) التي ازدهرت في فرنسا منذ منتصف القرن العشرين؟! وهي مدرسة لم يعرفها معظم المشتغلين في علم التاريخ ذاتهم، وأنا أحدهم إذ أتذكر بان معرفتي بها لا تتجاوز السنوات العشر. فكيف لأستاذ الطب أن يتمكن من استلهام منهجها بهذه الكفاءة المدهشة؟! حاولت أن أعثر في كتابات نزار غانم على سبب يبطل العجب!..

أقصد أي اشارة تدل على ملمح من الاتصال والعلاقة بتيار التاريخ الجديد، وهو المشهود له بالأمانة العلمية والنزاهة الأكاديمية فلم أجد مايدل على ذلك. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الأهمية المزدوجة الذي ينطوي عليه عمل الدكتور نزار؛ إذ هو من جهة قد أسدى خدمة جليلة للثقافة اليمنية والسودانية تحديدا والعربية والإنسانية عامة في جمع وحفظ وإشهار مدونة لتاريخ التواصل والاتصال الجغرافي التاريخي الثقافي بين البلدين ( اليمن والسودان) في تحفة ثقافية رائعة كاد يطويها الإهمال والنسيان بسبب ضياع بعض نصوصها وتشتتها في إضبارات وقصاصات متفرقة. إذ إنه وقد جمع هذا الكم المعرفي الزاخرة بالعطاء والإبداع في هذا الكتاب فقد حفظها من الضياع..

وهو من جهة أخرى يفتتح في هذا الكتاب منهج المدرسة التاريخية الجديدة في الدراسات الثقافية العربية ويقدم هذا الكتاب في منحاه الجديد دراسة تطبيقية لاتجاه التاريخ الجديد في الثقافة العربية. وهو بذلك اسدى فرصه ثمينة للمشتغلين في حقول الدراسات التاريخية العرب للتعرف عن نموذج تطبيقي محلي للتاريخ الجديد..

 لقد تذكرت وأنا اقرأ كتاب جسد الوجدان الذي - يعد أول كتاب في التاريخ الثقافي لشعوب البحر الأحمر- تذكرت كتاب المؤرخ الفرنسي بروديل عام 1949م 
الذي كرسه لدراسة ثقافة البحر الأبيض المتوسط. إذ أن الأفق التاريخي (الشمولي) عند بروديل كانت تسيطر عليه (موضوعة الحضارة) وهي تعني عنده: "مجموعة تاريخية يشملها نمط واحد من نظم الحياة المادية والروحية، والسمة الأولى للحضارة هي أنها حقيقة واقعية ذات مدة مفرطة في الطول، وسمتها الثانية هي أنها مرتبطة أوثق الارتباط بمكانها الجغرافي"...
-------------------
هامش : الدكتور قاسم عبد عوض المحبشي رئيس سابق لقسم الفلسفة ونائبا لعميد كلية الآداب في جامعة عدن .. ..وهو عضو هيئة التدريس في الاكاديمية العربية الدنماركية..واضطر لمغادرة الوطن بسبب التهديد الإرهابي الذي تعرض له واستهدفه في العاصمة عدن ..