في الهجرة والفجوة  الثقافية والإندماج الحضاري ..

البروفيسور / قاسم المحبشي..

كونوا معنا بعد سبعة أيام مع شباب المانيا..

هجر، هجرة، هاجر ، مهاجر، غادر، ارتحل، سافر، ترك المكان، شد الرحال، اغترب، تغرب، صار بعيدا عن الوطن، بمعنى انتقل من مكان إلى أخر .الخ من الكلمات التي يستخدمها الناس في كل مكان وزمان للتعبير عن ظاهرة الهجرة والسفر والاغتراب بمختلف اللهجات واللغات..

 إذ تعد الهجرة من الظواهر الطبيعية التي تتصل بحياة الكائنات الحية، بوصفها حركة نقلة وانتقال من مكان إلى مكان آخر، إذ تهاجر الطيور والحيوانات البحرية والبرية من مواطنها الأصلية إلى أماكن مختلفة لأسباب ودوافع عدة منها ؛ إيكولوجية تتصل بالمناخ والكوارث الطبيعية, الجدب والخصب والعواصف والفيضانات والزلازل والبراكين .الخ  . غير أن الهجرة بالنسبة بالنسبة للإنسان يكتسب معاني ودلالات ما بعد طبيعية؛ اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية حقوقية وأخلاقية وسيكولوجية. إلخ..

وهي لذلك تعد من الظواهر الاجتماعية الشديدة التركيب والتعقيد بما تنطوي عليه من بنية متعددة العناصر ولأنساق (فاعلون وأفعال ودوافع وعلاقات وقيم ومفاهيم؛ غربة، اغتراب ونزوح وهُوية واندماج وانتماء وذاكرة وحنين.إلخ)...

وقد شكلت الجغرافيا والتكنولوجيا عبر التاريخ أهم عاملي من عوامل الحركة والانتقال منذ السير على القديم وركوب الحيوانات في الأزمنة القديمة وحتى السفر بالمراكب والسفن البحرية والطائرات والسيارات والقطارات فضلا عن الهجرة التحول الرقمي والذكاء لاصطناعي..

 وبسبب الجغرافيا الطبيعية عاش الناس مئات السنين في مواطن ميلادهم جيلا بعد جيل دون إن يغادروها إلى أمكنة أخرى. إذ شكلت الظروف الجغرافية مثل التضاريس، المناخ، الموارد الطبيعية، والبيئة المحيطة قيودًا وفرصًا تحدد أنماط حركة المجتمعات وتفاعلاتهم وقد جعلت التكنولوجيا المعاصرة  وتقدمها في مجال النقل والمواصلات والاتصالات من الحركة والانتقال في زمن العولمة أكثر سهولة وسرعة. إذ بات بإمكان إي إنسان اليوم، الوصول إلى أي مكان في العالم خلال ساعات، وهذا يعزز من ظاهرة الهجرة العابرة للقارات...

كنت قبل إن اعرف تجربة الهجرة والاغتراب اتعجب من حماسة المهاجرين والمغتربين وحنينهم المستمر لبلدانهم الأصلية لاسيما اولئك الحاصلين على جنسيات الدول الغربية. إذ تجده حاصل على الجنسية الأمريكية أو الكندية أو البريطانية أو الالمانية الفرنسية أو الهولندية أو السويسرية أو البلجيكية..الخ ولكنه مشغولا ليلا نهارا بقضايا وطنه الأصلي واخبار واحوال مدينته أو قريته بشغف يبعث على الدهشة والاهتمام .

 وقد كتبت بحثا في هذه الظاهرة بعنوان ( الهجرة: أوالاغتراب المزدوج) حاولت أن افهم المعاني الخفية لتلك الظاهرة الشديدة التعقيد. ظاهرة الاغتراب المزدوج وذلك من زوايا نظر منهجية متعددة سوسيولوجية وثقافية وسيكولوجية وسياسية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية ودينية .الخ ..

فما السبيل إلى نفهم أشواق الطيور المهاجرة وحنينها الدائم؟ وكيف يتدبر المهاجرون العرب في مواطنهم الجديدة حياتهم؟ وكيف يمكنهم الاندماج الحضاري في تشبثهم بهوياتهم الثقافية المحمولة من مواطنهم الأصلية؟ انطلاقا من الفرضية التي أومن بصوابها والتي مؤداها إن الفعل قبل الوعي، النظام قبل الكلام! سوف اقارب مشكلة الفجوة الثقافية والاندماج الحضاري عند المهاجرين العرب في أوروبا بالاعتماد على الفرضية التي تقول : إذ تغيرت الشروط المادية لحياة الناس وتحسنت فرص عيشهم بما يشبع حاجاتهم الاساسية فربما تتغير  افكارهم وأفعالهم وتفاعلاتهم وأنماط علاقاتهم الاجتماعية وقيمهم وسلوكهم إذ أن أفكار الناس تنبع من واقع علاقاتهم الاجماعية في عالم الممارسة اليومية والسؤال هو: لا ماذا يفعل الناس؟ ويعتقدون ويقولون؟ بل لماذا يفعلون ما يفعلونه ويقولون ما يقولونه ؟! والأيديولوجيا تعني أن الناس يفكرون من اقدامهم ! والثقافة بالمعنى الانثروبولوجي؛ هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء! بمعنى أن الوعي إذا لم يترسخ في السلوك ويكتسب صفة العادة لا يصمد كثيرا في مواجهة تحديات الحياة الواقعية ، وحينما يتكرر الفعل والسلوك مرات كثيرة يصير عادة وحينما تترسخ العادة  تصير ثقافة..

وحتى اقرب اليكم فكرة المحاضرة اليكم الحكاية:
تتكون الثقافة من : اولا: 
كل ما كل ما نفكر به ونعتقده ونفهمه ونتكلم ( اللغة، الدين، التعليم ،التأويل، الرموز والمفاهيم والأفكار والمعاني في الحكم والامثال واللهجات والذكريات ) فكل إنسان ولد ونشاء في عائلة تنتمى إلى جماعة محلية صغيرة أو كبيرة هل التي شكلته بنمطها الثقافي. 
ثانيا: الثقافة هي أسلوب عيش ونمط سلوك
( تكيف الفرد مع الجماعة، حدود فرديته إن وجدت، انتماءه وحقوقه وواجباته فالانتقال من ثقافة الجماعة إلى ثقافة الذات الفردية الحرة ليس مسألة سهلة فضلا عن طريقة التعامل مع النوع الاجتماعي، في التربية والتعليم والتزاوج والمجتمع المدني ثمة اختلافات تحتاج إلى 
تجسير تواجه الفتاة العربية في الغرب معضلة حقيقية، خاصة إن كانت تنتمي إلى أسرة محافظة.. 

فبينما تنفتح أمامها أبواب التعليم والمشاركة المجتمعية، قد تُواجه قيودًا أسرية تُفضّل التعليم المنزلي خوفًا من الانفتاح. هذا التضييق يُنتج اضطرابات نفسية، ويولد التمرد أحيانًا.كما تظهر فجوة ثقافية حادة عند الزواج، عندما يُفرض على الفتاة عريس من خلفية قبلية أو تقليدية من بلدها الأصلي، مما يؤدي إلى صدام حضاري داخل الأسرة، وقد ينتهي بالطلاق. والعكس صحيح أيضًا، عندما يُجبر الشاب على الارتباط بفتاة لا يشاركها نفس القيم التي تربى عليها في الغرب.
والأزمة الثقافية تلك تتوارث بين الأجيال..

حيث بواجه أطفال المهاجرين العرب الذين اصطحبوهم أو الذين ولدوا بعد الوصول إلى الدول المستهدفة ؛ يواجهون ثقافتان مختلفتان: ثقافة المدرسة الاوروبية: التي تروج للحرية الفردية، والتعبير عن الذات، والانفتاح، مقابل ثقافة المنزل التي قد تكون قائمة على الطاعة والخصوصية والانضباط الاجتماعي. هذه الازدواجية تؤدي إلى صراعات داخلية عند الأبناء، وقد تفضي إلى:
 • العزلة النفسية والانسحاب من الحوار مع الأسرة.
 • الإفراط في استخدام الأجهزة الإلكترونية كمهرب من الواقع المتوتر.
 • ضعف الهوية الثقافية، وتراجع استخدام اللغة العربية.
 • الشعور بالنقص أو الدونية نتيجة غياب المعرفة بتراثهم وهويتهم الأصلية التي كانت عظيمة وتستحق الفخر والاعتزاز.
ورغم الفرص المتاحة للمهاجرين في الدول الاوروبية إلا أنني لاحظت كيف انهم يعيشون ظاهرة (الأغتراب المزدوج)  إذ لاتزال شريحة واسعة من المهاجرين العرب من مختلف الأقطاب العربية تعيش داخل “فقاعة ثقافية” مغلقة، تعتمد على استحضار ثقافة القرية أو الصحراء في حياتها اليومية، وتُقصي عن وعي أو جهل ثقافة البلد المضيف. هذا الانغلاق يُساهم في تعميق العزلة، ويُضعف فرص الاندماج الحقيقي في المجتمع. ومن الملاحظات التي استوقفتني في تأمل حياة المهاجرين في بعض الدول الأوروبية ومنها المانيا وهولندا وكندا ..

إذ إن الكثير منهم يسابقون الزمن لتكوين انفسهم ماديا وتطوير أنفسهم مهنيا فقط، دون أن يوازي هذا التطور التمكين المعيشيوالتأهيل المهني العالي إلى رقي فكري واستنارة ثقافية في الفهم والسلوك بعضهم قد يحصل على اعلى الشهادات العلمية ومنها الدكتوراه، في التخصصات المختلفة لكنه ثقافيا ما زال يفكر بطريقة اجداده في الزمن القديم. وطالما اخترت العيش في الغرب الحديث فمن المهم إن تفهم ثقافة موطنك الجديد إن التحدي الأكبر للمهاجر العربي في الغرب ليس في الحفاظ على ثقافة بلده الأصلي فقط، بل في كيفية التفاعل الواعي مع الحضارة الجديدة، بحيث يربّي جيلًا مزدوج الوعي: منفتحًا على العالم، ومعتزًا بجذوره الحضارية التليدة..

ومن الملح التفكير الجاد  بتحقيق الاندماج الحضاري مع المجتمعات الاقامة والاندماج هنا لا يعني الذوبان في الثقافة الغربية، وتبني قيمها كما هي بل التفاعل معها بوعي نقدي ، مع الحفاظ على القيم الإيجابية للثقافة الأصيلة. وتقترح الاهتمام بالتربية والتعليم بوصفها مؤسسة تكوين المستقبل وذلك من خلال 
 ١- تعليم اللغة العربية للأبناء وتعزيز الفخر بالهوية الثقافية.
٢- فتح حوارات أسرية بنّاءة تقوم على التفهم لا القمع.
 ٣- دمج الأسرة في أنشطة المجتمع المدني  مع الحرص على التوازن الثقافي والاستفادة من الفرص المتاحة
 ٤- تعريف الأبناء بالنقاط المشتركة بين ثقافات شعوب العالم ، وتشجيعهم على أخذ الأفضل من كل منهما.
 ٥- الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال والمراهقين، خاصة في مراحل الهوية وتكوين الذات...