"وعند الله تجتمع الخصوم".. صرخة شيخ القرآن صالح حنتوس قبل أن يسكتها رصاص الغدر (التسجيل الصوتي الأخير)

"وعند الله تجتمع الخصوم".. صرخة شيخ القرآن صالح حنتوس قبل أن يسكتها رصاص الغدر (التسجيل الصوتي الأخير)

كتب : محمد البحري 

⁨  

في زمنٍ خذل فيه الساكتون صوت الحق، وسكت فيه القانون على صراخ المظلوم، خرج من بين الركام شيخٌ هادئٌ مهيب، لم يكن يحمل في يده سلاحًا، بل حمل في صدره كتاب الله، وفي صوته صدقًا لا تُخطئه الآذان. إنه الشيخ صالح حنتوس، وجه القرآن في محافظة ريمة، ومربّي أجيال الإيمان، وقنديلٌ لم يكن يرضى للظلمة أن يبتلعوا نور الدار التي علمت أبناءها حبّ الله ورسوله.

لم يكن الشيخ سوى رجل سلام، رجلٌ وهب أيامه للقرآن، وسنواته لتعليم الناس الطهر والمعرفة، فماذا فعلوا به؟! تسللت رصاصاتهم الغادرة إلى بيته كما يتسلل الخنجر إلى الظهر، واقتحموا عليه داره كما تقتحم الضباع وكر الأسد العجوز، لا لشيء سوى لأنه قال كلمة، ولأنه كان حاملًا لنور.

أي ذنبٍ ارتكبه هذا الشيخ الطاعن في السن؟ هل بات تعليم القرآن جريمة؟! وهل صار تحفيظ الصغار كلام الله تهمة في قاموس مليشيات لا تخشى الله ولا تعرف حرمة؟

في وجه القتلة... وقف الشيخ وحيدًا: 

أمام الجبروت وقف بصلابة لا يمتلكها إلا من امتلأ قلبه يقينًا، لم يُشهر سلاحًا، بل أشهر خُلُق القرآن. حاول أن يردهم بالكلمة، أن يذكّرهم بحرمة الزمان، بشرف الشهر الحرام، ولكن كيف يُذكَّر من لا حرمة في قلبه ولا ذمة في صدره؟!

طلب منهم أن يحاكموه إن كانوا يزعمون أنهم دولة قانون، مدّ لهم يده ليحتكم إلى القضاء، ولكن أي قضاءٍ هذا الذي تحكمه البنادق ويُديره القتلة؟!

بكل ما يملكه من كرامة، وضع جاهه أمامهم، توسّل إليهم أن يتركوه في بيته، أن يحقنوا الدماء، أن يراعوا شيبته وسنواته الطويلة في خدمة القرآن، لكنهم لا يملكون سوى لغة واحدة: القتل.

الدماء بالنسبة لهم نشوة، والغدر طبعٌ لا يستطيعون التخلص منه. هجمتهم عليه كانت قرارًا مسبقًا، لم تمنعهم كلماته، ولا توسلاته، ولا بيته، ولا زوجته، ولا حتى حرمة الشهر الفضيل.

الغدر… من رجال لا يعرفون عيبًا ولا مروءة :

الشيخ الذي فتح لهم بابه يومًا، وأكرم وفادتهم، وجعلهم يجلسون على سجاد بيته ويأكلون من طعامه، هو ذاته الذي غدروا به من خلف ظهره. رجلٌ منهم وصفه يومًا برجل السلام، ثم عاد ليقود الحملة التي أزهقت روحه، وكأن شرف العيش والملح لا مكان له في عقولهم، لا دين يردعهم، ولا قبيلة تمنعهم، ولا إنسانية تسكن قلوبهم الميتة.

كلمات مودّع... لكنها طعنات في قلوبنا :

في لحظاته الأخيرة، نطق كلمات ستبقى شاهدة على جبن القريب والصاحب وخستهم، نطق بها شيخٌ مسنّ يُسحب من بيته إلى مصيره وهو يعلم أن لا أحد سينصره، فقال ما يهزّ الجبال، قال ما لا تحتمله ضمائر الخاذلين" أن اليوم فيني وغداً فيكم ، اليوم يستهدفوني انا ، وغدا سيستهدونكم أنتم " كانت كلماته الأخيرة صرخةً مبحوحة في وجوه من صمتوا، وفي آذان من برروا، وفي قلوب من شاركوا.

كانت كلماته جرحًا نازفًا في ضمير الأمة، ووصية لا تموت: أن القاتل لا يفلت، وأن الباغي ينتظر مصيره ولو بعد حين، وأن للدم المظلوم ميعادًا مع العدالة، ولو تأخرت.

قتل أمام زوجته... ولكن الله شاهد

كم هو مؤلم أن يُقتل الرجل الثمانيني في حضرة من أحبهم، أن تراه زوجته يخرُّ صريعًا بلا ذنب، وأن تسمع أنفاسه الأخيرة وهي تعلم أنه لم يرتكب غير الخير. كم هو قاسٍ أن ينام القاتل على وسادة الرضا، والدم ينزف من قلب زوجة تبكي شهيدها، تحتضن تراب زوجها بدل أن تحتضنه حيًّا.

لكنه قالها، وسيقولها كل مظلوم بعده: "وعند الله تجتمع الخصوم".

هناك، لا تحكم البنادق، ولا تُغيّب الحقيقة، هناك تخرج الأرواح من قبورها لتروي ما كتمه الرصاص، ويُحاكم كل ظالم تحت عرش من لا يظلم عنده أحد.

ختامًا...

صالح حنتوس لم يكن مجرد شيخ، بل كان سورةً تمشي على الأرض، وكان آية صدقٍ اغتالها أهل الزيف. لكنهم ما عرفوا أن الدم الطاهر لا يُقتل، بل يتحوّل إلى لعنة تطاردهم، ونار تُشعل الوعي في القلوب.

فيا كل من بقي حيًا... لا تخذلوا القرآن وأهله، لا تصمتوا أمام جريمة كهذه، لا تساوموا على دمٍ صعد إلى الله يشكو، وعلى لسانٍ نطق بالحق حتى الرمق الأخير.

سلامٌ على شيخنا... وسلامٌ على كل من سار في درب الحق، ولو كان نهايته الشهادة.