اليمن المعطل من الداخل بين كذبة الديمقراطية وتواطؤ النخبة وعمى الوعي الجمعي...
اليمن لم تعش تجربة ديمقراطية حقيقية بل خاضت عملية خداع كبرى زينت القبح بالزيف وغلفت الاستبداد بغلاف المدنية وتحايلت على الوعي المحلي والدولي باسم صناديق الاقتراع وشعارات الحرية والتعدد بينما الحقيقة ان ما جرى لم يكن اكثر من انتاج نسخة جديدة من النظام القديم مع ادوات اكثر حداثة وخطاب اكثر انتهازية نظام حكم نفسه باسم التداول وباع وهم الديمقراطية للداخل والخارج بينما كان يتقن لعبة القبضة الحديدية والفشل خلف ستار ناعم .
الديمقراطية التي جاءت لم تكن نتيجة نضوج داخلي ولا نتيجة وعي جمعي بل كانت كالعسل الذي يقدم لمريض سكري جميل في ظاهره قاتل في اثره جرى تقديم صندوق انتخابي فوق ارض لم تعرف معنى الدولة ولا القانون ولا المواطنة بل عاشت لقرون على نظام الغلبة والقبيلة والمذهب والانتماء الضيق الديمقراطية تحولت الى وسيلة لتكريس النفوذ لا لتوزيع السلطة واداة لتجميل الواقع لا لتغييره صارت تمثيلية هزلية تتقنها نخب مشوهة تدير الشأن العام كمن يدير دكانا للعطارة وليس مؤسسات حكم .
فالمجتمع اليمني ذاته لم يكن في مستوى الفكرة لا من حيث الوعي ولا من حيث القبول ولم يتعامل مع الدولة كقيمة بل كغنيمة ولم يتعامل مع القانون كمرجعية بل كخيار انتقائي يخضع للنفوذ والولاء والقرابة لا لميزان العدل وكان الوعي الجمعي يعاني من وهم العظمة يرى نفسه شعبا مختارا محور العالم تتآمر عليه قارات باكملها من الخليج الى امريكا ويقتنع ان ثروات مخفية في باطن ارضه وهي السبب في كل ما يحدث بينما الواقع ان الثروة الوحيدة التي تهمل وتدفن كل يوم هي الانسان .
وما يزال هذا المجتمع يرفض الاعتراف بمرضه يرفض النقد الذاتي يشيطن المختلف يقدس الجهل ويعادي الفكرة يعتبر التعليم رفاهية والتطوير مؤامرة والانفتاح انحلال والاختلاف خيانة يعيش في الماضي ويضع على عاتق الخارج مسؤولية كل فشل بينما كل مؤشرات السقوط تنبع من داخله ولم يعرف يوما ان الحضارة لا تهبط من السماء وان الدولة لا تاتي عبر الامنيات وان الكرامة لا تصنعها الشعارات بل العمل والانضباط والعدل .
السلطة اليمنية منذ عقود لم تكن تمثل الدولة بل كانت تمثل تحالفا بين الفساد والسلاح والمصالح نخبة سياسية فشلت في انتاج اي مشروع وطني جامع نخب هجرت مناصبها لتتسول في الخارج ولم تعد تحمل غير عقلية الصراع والتامر نخبة ترى في السلطة ملكا شخصيا وفي الدولة مؤسسة للجباية وليست كيانا خدميا سافرت الى الغرب رات كيف تبنى الدول لكنها عادت لتعيد انتاج الجهل والوهم والخرافة نخبة عاجزة عن مغادرة الولاء الضيق عاجزة عن فهم ان السياسة ليست لعبة اصطفاف بل عقد شراكة لادارة اختلافات مجتمع معقد ومتعدد .
في اليمن الدولة لا تحكم بل تتقاسم والمواطن لا يحترم بل يستنزف والتعليم لا يبنى بل يهدم والمعلم يهان والمفكر يخون ورجل الدولة يستبدل بزعيم قبلي او شيخ نافذ والعدالة تتحول الى صكوك مغفرة توزعها المصالح والولاءات والحزبية الفاشلة وتحول كل فكرة الى خيانة وكل اختلاف الى تهديد وكل نقد الى مؤامرة.
تفسير الفشل بات معلبا دائما هناك مؤامرة دائما هناك تامر خارجي بينما لا احد يملك شجاعة ان يقول ان الفشل محلي الصنع وان الانهيار نابع من غياب العقل وان الكارثة ان المجتمع لم ينتج بعد جدارا فكريا يحميه من نفسه قبل ان يحميه من الخارج لا احد يعترف ان المشكلة ان الدولة لم تكن دولة ولا الثورة كانت ثورة ولا الديمقراطية كانت ديمقراطية بل كانت كلها نسخ مشوهة تغلف الخراب بمصطلحات زائفة .
الجهل اصبح اداة حكم والفساد صار معيارا للذكاء والانتهازية صارت بطولة بينما الكفاءة نزوة نخبوية لا تجد لها مكانا والوطن صار ساحة تصفيات لا ساحة بناء الاعلام ينتج الكراهية لا الوعي والمناهج تنتج اتباعا لا مفكرين والنظام التعليمي تحول الى خرابة فكرية تنتج الياس قبل ان تنتج الامل .
اليمن اليوم لا تحتاج الى مبادرات شكلية ولا الى وثائق جديدة بل تحتاج الى مشروع اعادة بناء عقل جمعي بحاجة الى ثورة على المفاهيم قبل ان تكون ثورة على السلطة بحاجة الى نسف الثقافة السائدة التي تؤسس للتخلف باسم الدين وتشرعن القهر باسم القبيلة وتسوق الجهل باسم الهوية ولا يمكن انقاذ اليمن بدون مواجهة صريحة مع الذات بدون اعتراف ان الخلل يبدا من الداخل بدون ان نكف عن لعنة الجغرافيا ونبدا بلعنة العقول التي ترفض ان تتغير .
الديمقراطية لا تاتي من الخارج ولا تفرض بالدبابة ولا تصنعها المؤتمرات الديمقراطية تبدا من لحظة وعي تبدا حين يفهم الانسان ان الحرية مسؤولية وان الدولة عقد شراكة وان الوطن ليس قبيلة ولا حزب ولا مذهب وان القانون هو الحاكم الوحيد وان القوة لا تصنع الحق بل الحق يصنع القوة فاليمن لن تقوم طالما بقيت تدار بالعقلية نفسها وتحكم بالادوات نفسها وتخاطب باللغة نفسها اليمن بحاجة الى صدمة فكرية تعيد تشكيل وعيها من الجذر لا من القشرة .
لا تنمية بلا دولة ولا دولة بلا قانون ولا قانون بلا وعي ولا وعي في مجتمع يرفض ان يرى صورته الحقيقية في المراة كل من حاول ان يكون مراة يكسر وكل من حاول ان يكون فكرة يخون وكل من حاول ان يكون مختلفا يباد مجتمع بهذه النفسية لا يمكن ان يعيش حرا ولا ان يحكم نفسه ولا ان يحترمه العالم فاحترام العالم لا يشترى بالعناد ولا بالصراخ ولا بالشكاية وانما ينتزع حين نحترم نحن انفسنا ..