ثوار آخر موديل: من مقاولات الثورة إلى شركات قابضة 

باسم الثورة... باسم "مقاومة" المليشيات الحوثية... باسم دماء الشهداء، وتضحيات الجنود، وآهات الأرامل، وأنين الجرحى، وبكاء الأطفال في المخيمات، ارتفعت أرصدة بعض "الثوار" إلى مئات الآلاف من الدولارات. صاروا ينامون على فرش الريتز، ويأكلون في مطاعم الميشلان، ويشربون القهوة من فناجين ممهورة بتوقيع "الثورة المجيدة".
و يا لسخرية القدر.
دخلوا المعركة حفاة، بثياب مرقعة، وبعيون تشتعل بشعارات من طراز "تحرير اليمن"، و"استعادة الجمهورية"، و"إنهاء الانقلاب"، ثم انتهى بهم المطاف يقتنون شققا فاخرة في إسطنبول، والقاهرة، وأبوظبي والدوحة، والرباط والمهجر. بعضهم يملك زوجة هنا، وأخرى هناك، وربما ثالثة في الطريق... كل واحدة تشهد على "انتصار الثورة" على القيم والأخلاق!
نعم ،في زمن ما، كنا نرفع صورهم ونردد أسماءهم بفخر. اليوم، نراهم يتبخترون في معارض السيارات الفارهة، يتفاخرون بمركبات تتغير كل موسم، بينما المناضلون الحقيقيون يغيرون مكان نومهم من خيمة إلى رصيف، ويكتفون ببطانية مهترئة كُلما "بارت" شعارات الانتصار.

ولكن كيف تحولت "الجبهة" إلى شركة قابضة؟
كيف صارت "المقاومة" سندات استثمارية في سوق الحرب؟
وكيف أصبحت الخنادق صالات اجتماعات تُدار فيها خطط السيطرة، وتقاسم الغنائم، وشراء الولاءات؟
على إن هؤلاء لم يهزموا الحوثيين، بل هزموا الأخلاق.
لم ينتصروا للوطن، بل انتصروا لحساباتهم البنكية.
لم يقاوموا الانقلاب، بل قاوموا الفقر... وهزموه جيدا، لأنهم حجزوا له تذكرة ذهاب بلا عودة من حياتهم.

لكن من أين لهم هذا؟
من أين لهم الشقق والسيارات والمشاريع والزوجات المتعددة؟
من أين لهم هذا الرفاه الذي لا يعرفه حتى الوزراء في بعض البلدان التي بلا حرب؟
هل هي مكافأة على البيانات النارية؟ أم على التغريدات الملتهبة؟ أم على الخطابات التي تُبث من فنادق 5 نجوم؟

والأدهى من ذلك، أنهم لا يزالون يرفعون نفس الشعارات، بنفس النبرة، بنفس الادعاء بالوطنية، وكأن الذاكرة الجمعية لهذا الشعب أضعف من ذاكرة سمكة.
لكن التاريخ يا سادة، ليس تويتر.
التاريخ لا يُمحى بزر الحظر، ولا يُزوَّر بمنشور ممول.
والشاهد إن هؤلاء "الثوار الجدد" أشبه بجنرالات الكوميديا السوداء، يعلنون النصر في نشرات الأخبار، بينما الوطن يتلاشى شبرا شبرا.
نعم ، هم الورثة الجدد للفساد، ولكن بعباءة "المشروع الوطني".
يزعمون محاربة المليشيا، فيما يرتبون معها صفقات سرية تحت الطاولة، ويقتسمون معها الغنائم كما يتقاسم اللصوص ما بعد الجريمة.

أما المساكين الذين صدقوا كل شيء، فهم اليوم يشحتونهم ليسددوا إيجار الغرفة.
أما الذين وهبوا أبناءهم للمعركة، فقد عادوا باستشهادات على الورق... وتجاهل على الأرض.
أما الذين ما زالوا يرفعون رؤوسهم، فهم قلة قليلة... لا تملك شيئا سوى الكرامة. وتلك الكرامة، يا سادة، لا تُصرف في السوق السوداء.
لذلك أيها "الثائر المستثمر"، أيها "المجاهد العقاري"، أيها "المناضل المتعدد الزوجات"، تذكر أنك ربما نجحت في خداع بعض الناس لبعض الوقت...
لكن اليمن، وإن كانت مريضة الآن، ستفيق.
وستسألك:
أين كنت عندما كنا نتضور جوعا؟
أين كنت عندما بُترت أطراف الأمل؟
وستصرخ طفلة في تعز:
لماذا لم تكن أبي في الخندق بل كنت أبي في المول؟
وستبكي أرملة في مأرب:
لماذا كان راتب زوجي شهيدا هو وجبة غداء لك في فندق على الكورنيش؟
نعم ،أيها المناضلون الورقيون، كل ثورة تأكل أبناءها... إلا هذه، فقد أنجبت لصوصا.
والتاريخ لن يرحمهم.
والشعب، وإن صمت الآن، فغضبه مؤجل... لا مُلغى.
وسيأتي يوم، تتعلق فيه أرصدتكم على الجدران، كفضيحة وطنية، لا كوسام.