رمضان والراتب وما أدراك ما الراتب

ذاك الكائن الخرافي الذي يتحدث عنه الجميع، ولا يراه أحد، يُقال والله أعلم إنه كان يأتي بانتظام، يبتسم في وجوه الموظفين، يدخل جيوبهم بكل احترام، ثم يختفي شيئًا فشيئًا، حتى صار ذكره أشبه بذكر ماض تولى.
تخيلوا مشهد هذا الموظف المسكين ذليلا عند بوابة الراتب، طوابير الموظفين تمتد من بوابة البنك إلى آخر الشارع، وجوههم شاحبة، أكتافهم متهدلة، وعيونهم تحمل رجاءً صامتًا كأنهم يتوسلون: "أيها الراتب، إن كنت ما زلت على قيد الحياة، أرسل لنا إشارة أو نبض". بينما موظفو المالية يوزعون الوعود كما توزع الأضحية على فقراء أفريقيا كل عام. 


المضحك المبكي أن العدالة المالية خارج التغطية، وأن الدولة تتذكر كل مواطنيها باستثناء هؤلاء الذين لا يزالون داخل الوطن، أما الذين هربوا إلى الخارج، فقد فُتِحت لهم خزائن البنك المركزي من العملة الصعبة، وكأن الدولة تخشى عليهم من الجوع والحرمان، بينما أبناء الداخل يمكنهم "الصبر والاحتساب" كأن العمل داخل الوطن أصبح عقوبة في حد ذاتها.

فيما كل القطاعات في الهوى سوى لئلا يُقال إن هناك تمييزًا، فإن الحكومة حرصت على أن يعاني الجميع على قدم المساواة، من التعليم إلى الصحة إلى الخدمات العامة، كلهم بلا رواتب، كلهم يقتاتون على الأمل والتسويف، حتى بات من الطبيعي أن ترى مهندسا يعمل في النهار ويسوق "دباب" في الليل، وأستاذًا يشرح درسًا صباحًا ويبيع البطاط الشيبس في المساء، أما موظفو الدولة الآخرون، فقد أصبحوا خبراء في "التقسيط والتأجيل".
والآن، ونحن في ثاني أيام رمضان الكريم، الشهر الذي يُفترض أن يكون شهر الخير، لكنه وللأسف أصبح شهر الديون والمآسي، حيث يتفنن الناس في كتابة قوائم "المطلوبات" مع إدراكهم أنها ستبقى حبرًا على ورق، فالأسواق تعج بالسلع، لكن الجيوب خاوية، والتجار يرمقون المشترين بنظرات شفقة ممزوجة بالسخرية، وكأنهم يقولون: "عندما تنزل الرواتب تعالوا لنتفاوض"
لقد أصبح الراتب بين الحقيقة والخيال مثل "الغول والعنقاء"، الجميع يتحدث عنه، لكن أحدًا لم يره منذ فترة طويلة، وإن صُرف، فإنه لا يصل سليمًا، بل يُنهك في طريقه، وكأن الدولة تُخصم منه بدل "مشقة الوصول".

في الختام، لا نملك إلا أن نرفع أيدينا بالدعاء:
اللهم أرنا الراتب في غير أحلامنا، واجعل نزوله سهلاً كالمطر، وبركته عظيمة كالمعجزة، ولا تجعلنا من القائلين "اللهم أنه كان لنا راتب".

الله المستعان