رسالة إلى رمضان: بين الحب والخذلان...
رسالة إلى رمضان: بين الحب والخذلان..
فتحي أبو النصر
رمضان العزيز
لسنا بخير يا رمضان. نعلم أنك تأتينا بالرحمة، لكن هل ترى ما حل بنا؟
نعم ،أي رحمة يمكنها أن تصل إلى من طحنهم الفقر ودهستهم الحروب ؟
بل وكيف نكون بخير إن كنا نعيش في عالم صار الفقراء فيه مجرد أرقام في نشرات الإحصاء، فيما المتخمون بالسعادة الكاذبة يلقون عليهم الفتات، ثم يزعمون أنهم من أهل الخير؟
رمضان الحميم
اتمنى أن كل عام وأحبابي الفقراء بخير، فهم وحدهم من يعرفون السعادة الحقيقية، تلك التي تنبع من القلب رغم قسوة الظروف، رغم جشع المحتكرين والمبذرين، رغم تجار الدين الذين يتخذون منك شعارا لمتاجرتهم بآلام الناس.
طبعا أحبك يا رمضان، أحبك لأنك تذكرني ببراءة الطفولة، حين كانت الأيام أكثر وضوحا والنوايا أكثر نقاء. أحبك لأنك تعيدني إلى نزاهة اللحظات البيضاء لكبار السن، أولئك الذين عركتهم الحياة ولم تعكر أرواحهم. بل أحبك تحديدا لأنك تحمل في طياتك ذكريات، بعضها يشد القلب فرحا، وبعضها يمزقه حنينا.
لكنني لست بخير يا رمضان، وكيف أكون بخير وأطفالي بعيدون عني؟ أتعلم كيف تكون الغربة حقا؟
ليست غربة المكان وحدها اعني،بل تلك الغربة التي تسكن الروح، حين تتمنى أن تحتضن من تحب، فتجد المسافات والجدران والحواجز تفصل بينكم.
والحال يا رمضان العزيز، "ها أنت تعود بكل ما تحمله من دفء ووجع، تجمع الأحبة وتكشف فراغ من رحلوا. في موائدك يلتقي الأهل، لكن هناك من لا يجد حتى ظلا يجلس إليه. تتجدد فيك الاحلام، لكنك أيضا تعيد فتح الجراح.
فماذا عن أولئك الذين لا تصلهم أصوات الدعاء، الذين غيبتهم الحرب أو الغربة أو القهر؟ لذا كن رحيما، يا رمضان، لا تختبر قلوبنا أكثر، لا تترك أحدا وحيدا تحت سمائك المضاءة بالأمل والحنين.".
لكن على الرغم من محبتك، فإنك تفزعني يا رمضان. تفزعني حين أتذكر حال الناس الطيبين، أولئك الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وُجدوا في زمن لا يرحم، في وطن صار مستباحا لكل الأوجاع.بل يصيبني الرعب حين أرى الفقراء الذين أنهكتهم الحروب والأوبئة والجوع المتراكم من كل حدب وصوب. فكيف أستقبلك بفرح وأنا أعلم أن هناك من يستقبلك على طاولات خاوية، ببطون خاوية، بأحلام خاوية؟نعم، كيف أحتفي بك وأنت تعري أمامي كل هذه المآسي؟
ثم "ما قيمتك إن لم تتحول إلى نور خافت يسكن دواخلنا، يتسلل برفق إلى زوايا أرواحنا المعتمة، ويفتح نوافذ الفهم العميق؟ بل ما جدواك إن لم تكن أكثر من طقس عابر، أكثر من صيام عن الطعام والشراب، إن لم تحررنا من الرتابة والجمود، وإن لم تصنع فينا جمالا يمحو القبح المتراكم، القبح الذي زرعته السلطات الفاسدة"ورعته المليشيات الجشعة حتى صار كالغبار الجاثم على الصدور؟ إن لم تكن ثورة على الفساد والظلم، فماذا تكون؟
لكنني رغم كل هذا لا أعاتبك، بل أعاتب هذا العالم الذي جعلك موسما للمظاهر بدل أن تكون موسما للروح. أعاتب الذين يتخذونك فرصة لاستعراض ثرواتهم بدل أن يجعلوك طريقا للرحمة والتراحم. أعاتب أولئك الذين يقتلون معنى الجوع الحقيقي بأطباقهم الفاخرة، وأولئك الذين يحتكرون قوت الناس ثم يخرجون على الملأ بموائد مزيفة.
فإن كنت تستطيع، يا رمضان، فكن هذا العام مختلفا. لا تكن شهرا يمر دون أثر، بل اجعلنا نحملك معنا بعد رحيلك. كن صدى في أرواحنا لا يخفت، كن فكرة توقظنا كلما هممنا بالعودة إلى سباتنا. بل اجعلنا نشعر بالآخرين حقا، لا بالكلمات ولا بالمجاملات، بل بالفعل، بالفعل وحده.
ثم كن خفيفا على قلوب من أرهقهم الهم، وكن نورا في دروب الذين تاهوا في ظلام أوطانهم. وإن لم تستطع، فكن على الأقل شهيدا علينا، على أرواحنا، على قسوتنا، على ما صنعناه نحن في هذا العالم الذي لم يعد يشبهك في شيء.
وحتى ذلك الحين، سأظل أحبك، وأخافك، وأعاتبك، وأرجوك أن تأتي في عام آخر، فتجدنا حقا بخير.