إنها مأرب كانت ولا زالت وستظل تعلم الجميع*

إنها مأرب كانت ولا زالت وستظل تعلم الجميع*

كتب |عبدالخالق عمران

قبل عقد من الزمن لم يتفاجأ أحرار الجمهورية مما فعلته مأرب الإباء، عندما نصبت مطارحها وأعلنت حالة الاستنفار القصوى لمواجهة أحفاد الإمامة الجُدد، فحج إليها الباحثون عن الخلاص والتحرير، وكانت الملاذ الأخير للجمهوريين والنقطة الأولى لاستعادة الجمهورية.

وهنا، ما زلت أتذكر أني كنت قبل اختطافي أنا وزملائي الصحفيين الثمانية على وشك أن نلتحق بركب الأحرار في مأرب قِبلة الحرية، للبدء بمشروع إذاعة وقناة تلفزيونية، وممارسة عملنا الصحفي في جو من حرية الرأي والتعبير الذي قضت عليه مليشيا الحوثي في صنعاء، وشنت حربها الدموية على الصحافة والصحفيين والمؤسسات الإعلامية، ونهبت من أعمارنا ثمان سنوات في سجونها الظلامية. 


وبعد هذه السنوات الجحيمية القاسية وصلت مأرب برفقة الثلاثة الزملاء حاجًا من الأعلى محلقًا في سمائها وعبر طيران الصليب الأحمر الدولي، أحط الرحال في مطار تداوين مُحرَّرًا وسأعود محرِّرًا بإذن الله مع موكب اليمنيين الجمهوريين الأحرار، ويا لها من لحظات وشعور لا تنصفه الكلمات والتعابير. 

إن الحديث عن مأرب ومطارحها من تجربة السجن، هو حديث مثقل بالآلام وشاق عليَّ، غير أن هذا العناء يهون ويطرح جانبًا أمام عظمة المكان والحدث.

لا حديث للسجان غير مأرب ورجالها، يبث الشائعات عنها، ويسقطها كل يوم يهدد ويتوعد بالانتقام بإعدام الأسرى والمختطفين، وذلك بهدف كسر إرادتهم وقتل معنوياتهم.
 
تخشى ميليشيا الحوثي من مأرب الجمهورية والجمهوريين، ويرتعب السجانين من الأسرى المأربيين بشكل غريب، ولا زالت أتذكر كيف قام السلالي أبو شهاب المرتضى، بتعذيب أسير مأربي كان في زنزانة انفرادية بجواري في سجن شقيقه عبدالقادر المرتضى بمعسكر الأمن المركزي بمنطقة السبعين، بسبب أنه حفر في جدار زنزانته أبياتًا من قصيدة لأستاذنا الكبير جمال أنعم، وهي: 
سيأتي الصباح الذي في النفوس
 سيأتي كما أبدعته الشموش 
سيأتي الصباح وتأتي اليمن
جنان بها كل غصن وفن 


لم يخضع الأسير لإرهاب أبو شهاب وشتمه وتعذيبه؛ بل قاومه ورد عليه مفاخرًا أنا أسير من جبهات مأرب وأنتم تعرفونها جيدًا، ودفع الأسير البطل الثمن باهضًا وغطى دمه ساحة الزنازين؛ لكن في قانون السجن حقق الأسير انتصارًا كاملًا على السجان.

ومثل هذا البطل المئات من الأسرى والمختطفين، رغم الألم يعتزون بانتمائهم لجبهات مأرب ويتحدون ولهم زنازينهم وأسلحتهم الخاصة، وأرواح مأربية لا تعرف الهزيمة مليئة بالجمهورية والحرية، ثابتة على المبادئ يواجهون بها عدوهم العنصري وضلالاته وأباطيله وشائعاته عن مأرب وجيشها، ويهزؤون بجبروته بسرد النكات السياسية وقصص متوارثة عن ذلك المجنون الذي ظل لسنوات طوال يحاول هدم السد، فلقي حتفه قبل أن ينفجر السد، مشبهين بذلك حال الحوثي مع مأرب، ويرددون قصيدة شعبية تتنبأ بقدوم جيش ضخم من شرق البلاد "يعصر عصير" لتحرير العاصمة المختطفة صنعاء من الحوثيين، ويغنون الزوامل، ويدعون لمأرب في صلاتهم، ويقرؤون سورة الشمس وضحاها، ويستأنسون بالروئ والأحلام، ويدخنون سجائر مأرب وسبأ، ويرفعون في وجوه الخاطفين شعارهم "باقون علي قيد الحياة ما بقيت مأرب على قيد الجمهورية".


تسيطر على السجانين بمستوياتهم المختلفة حالة الخوف والرعب من مأرب وأبطالها، فالمجرم عبد القادر المرتضى لا ينفك في كل مقابلاته للمختطفين أو أثناء التحقيق معهم وتعذيبهم في سجنه أو منزله عن تهديدهم بتصفيتهم مقابل ميليشياته التي قتلت في معارك مأرب، ويكيل لهم ولمأرب السب والشتم.

وكذلك رأينا الخوف في حديث نائبه مراد أبو حسين الذي زارنا إلى سجن الأمن السياسي عام 2018، وكان يضغط علينا للاتصال بمأرب من أجل مبادلتنا بأسرى حرب، وقلنا له نحن صحفيون مدنيون تم اختطافنا بدون وجه حق. 

أخذت مأرب الجمهورية والمقاومة والدولة والنازحين معظم حديث المدعو مراد أبو حسين والمدعو أبو عقيل مدير السجن، وقال أبو حسين إن النسيج الاجتماعي المتماسك في مأرب حسب وصفه حال دون سقوطها، وأنها تمثل خطرًا يهدد صنعاء، وأن معركتهم مع مأرب معركة حياة أو موت، إما نكون أو لا نكون.

وهو تخوف أفصح عنه قبلهم المدعو محمد البخيتي في 2016، عندما أتى إلى ذات السجن في لجنة للاطلاع على أوضاع المختطفين، وأبدى تخوفهم من ثأر مأرب وعودتها إلى صنعاء على ظهر دبابة حسب قوله.

في كل معركة كانت تخوضها مأرب مع الحوثي تضاعف الميليشيا الحوثية من أساليبها التعذيبية والإجرامية بحق المختطفين والأسرى في سجونها، وذلك تعويضًا عما لحق بها من خسائر بشرية في جبهات مأرب على أيدي أبطال الجيش الوطني.


 ذات عام قال لنا الجلادون السلاليون إن موعد سقوطها سيكون في رمضان، حسب نبوءة زعيمهم المتخلف عبدالملك الحوثي، وما لم تسقط سيسقط زعيمهم، وها هي مأرب تقف شامخة وتزخر بالحياة وبالمناضلين من كل ربوع وقرى وبيوت اليمن، وزعيمهم يتهاوى ويترنح.

لم تغب مأرب يومًا عنا كمختطفين، لا نعلم مصيرنا في زنازين تحت الأرض، كانت مأرب بمطارحها وفرادتها واستشعارها للخطر الانقلابي وتطوراتها من المقاومة إلى الدولة الجمهورية الحاضنة لكافة الأطياف حاضرة في تفكيرنا وحديثنا، ومبعث اعتزاز وفخر نعلق عليه كل آمالنا وآلامنا في استعادة الوطن لحريته وجمهوريته وكرامته. 

ستبقى تجربة مطارح مأرب ملهمة تعلم الأجيال أن كلفة المواجهة أقل من كلفة الاستسلام. إنها مأرب كانت ولا زالت وستظل تعلم الجميع._

________________________

نقلا من موقع بران