مشـكلة الهواتـف الذكية في قاعـة المحـاضرات "تشتتٌ يلتهم المعرفة".
لـم تعد قاعة المحاضرات اليوم كما كانت بالأمس؛ فقد تسلّل إليها ضيف صغير الحجم، كبير التأثير، يسرق انتباه الطلاب بصمت إنّه "الهاتـف الذكـي".
ومـع اتصاله الدائم بالإنترنت، صار هذا الجهاز قادرًا على أن يزاحم المحاضر، ويقاطع الفكرة، ويبدّد الجوّ الدراسي المهيأ لعملية تعليمية جادّة.
أولاً: تشتت الطالب وفقدان التركيز:
يعانـي كثير من الطلاب من عدم القدرة على مقاومة الإغراء المتواصل الذي يفرضه الهاتف؛ إشعار صغير، أو رسالة من صديق، أو محاولة عابرة لتصفح تطبيق ما، كفيلة بأن تقطع سلسلة التركيز، وتفصل الطالب عن سياق المحاضرة.
وعندمـا ينقطع التركيز، يضيع الفهم، ويتشوه البناء المعرفي الذي يحتاج إلى متابعة متصلة بين بداية المحاضرة ونهايتها.
إن الاستـمرار في النظر إلى الهاتف أثناء الشرح يجعل الطالب حاضرًا بجسده… غائبًا بعقله.
وفـي نهاية المطاف يخرج من المحاضرة متسائلاً عمّا قيل، لا لأنه لم يفهم، بل لأنه لم يحضر فعليًا.
ثانيًا: أثـر هذا السلوك على المحاضر:
محـاضر المساق يقف أمام الطلاب وهو يحمل على عاتقه مسؤولية نقل المعرفة، وشرح المفاهيم، وتبسيط الأفكار.
وعندمـا يرى طالبًا يمسك بهاتفه بين الحين والآخر، رغم تكرار التنبيه، يشعر بشيء من الامتعاض والإحباط.
ذلك لأن هـذا السلوك يحمل عدة رسائل غير مباشرة للمحاضر:
· أن الطالب غير مهتم بالمادة.
· أن الجهد المبذول لا يجد آذانًا صاغية.
· أن جوَّ القاعة غير منضبط بالشكل الذي يليق بالعملية التعليمية.
ومـع الوقت، قد يفقد المحاضر حماسه، أو يقل اندفاعه في الشرح، لأن الشعور بعدم التقدير يجعل أي عملٍ أثقلَ وأقلَّ إلهامًا.
ثالثًا: لـماذا يجب احترام قواعد إغلاق الهواتف؟
توجيـهات المحاضر بعدم إبقاء الهواتف مفتوحة ليست تعسفية ولا تهدف إلى الحد من حرية الطالب، بل تستند إلى أساس تربوي واضح:
· حماية تركيز الطالب من التشتت.
· ضمان بيئة علمية محترمة خالية من الضوضاء البصرية.
· تعزيز التواصل الذهني بين الطالب والمحاضر.
· تكريس ثقافة الانضباط، وهي أساس النجاح في الحياة الأكاديمية والعملية.
رابعًا: رسـالة للـطالب:
اعـلم أن الهاتف لن يفوتك، وأن الإشعارات لن تنتهي، وأن العالم الرقمي سيظل مفتوحًا بعد انتهاء المحاضرة كما كان قبلها.
أمّـا لحظةُالفهم، وفرصةُ الاستيعاب، وشرارةُ الإدراك التي تومض في ذهنك عند شرح فكرة ما، فهي لحـظات لا تعـود.
أغـلق هاتـفك، لا استجابةً لتوجيهات المحاضر فحسب،
بل احترامًا لعقلك ولمستقبلك وللقيمة التي تبذلها من وقتك وعمرك في سبيل العلم.
فالنـجاح لا يولد من عقولٍ موزّعة بين أصوات الإشعارات، بل من ذهنٍ صافٍ، وحضورٍ كامل، وتركيزٍ يليق بطالبٍ يسعى إلى صناعة مستقبله.
فالمـحاضرة ليست مجرد التزام، بل استثمار في ذاتك، والنجاح لا يأتي لمن يداه مشغولتان، بل لمن يكون عقله حاضرًا بكليته.
لنـضع النقاط على الحـروف: المستقبل لا يُصنع بين المقاطع المُقصّرة والمنشورات العابرة؛ المستقبل يُبنى بلحظات التركيز العميق، بتلك الدقائق الثمينة التي تختبر فيها متعةَ الوصول إلى الفكرة، وروعةَ اكتشاف المجهول.
لا تبـيع مستقبلكَ برخص الإعجابات، واجعل من قاعة المحاضرات حصنًا منيعًا لطموحك، تخرج منها كل يوم وأنت أقوى، وأكثرَ معرفة، وأجدرَ بتحقيق ما تطمح إليه.
د. هـاني بن محمد القاسمي
مستشار رئيس جامعة عدن للشؤون الأكاديمية
عـدن: 22. نوفمبر. 2025م
.



