أمةٌ تتقاتل على اللهجات!..

فيما تحتفل سوريا بانتصاراتها العسكرية، ويعيش السودان أفراحه بعد صراعاته الطويلة، يقف اليمن، المنهك من حربه الوجودية، أمام معركة أخرى... لكنها ليست معركة استعادة دولة، ولا استرجاع سيادة، بل معركةٌ طاحنة حول اللهجات!..

تخيلوا المشهد: شعبٌ تآكلت دولته، انهار اقتصاده، وتفككت أوصاله، لكنه مشغولٌ بمعركة مقدسة حول نطق الكلمات...

 هذا يصرخ: "نقول ذيك مش هذيك!" وآخر يرد غاضبا: "بل هي هانا وليست هاناك!" بينما في الزاوية، فصيلٌ متطرف يصر على أن من لا يقول مشتى بدلا من شتاء فهو خائنٌ للهوية الوطنية!..

هكذا كل شيء في اليمن صار قابلا للانقسام: الدين، السياسة، الثقافة، وحتى أبسط عناصر الحياة اليومية. بل لم يعد الجدل يدور حول مشاريع البناء والتنمية، ولا حول كيفية إيقاف آلة الموت التي تحصد الأرواح يوميا، بل عن أي لهجة أحق بالسيادة! ..

هل يقول الناس في تعز هكذا أم كدا؟ هل أهل عدن عربٌ أصليون أم خليطٌ كوني مشبوه؟ هل أبناء صنعاء ينطقون القاف كما يجب، أم كما يريد أعداؤهم في مأرب؟..

في الحقيقة لقد نجح القاتل في صناعة مجتمع مشلول، يغرق في توافه الأمور، بينما ينهب هو النفط والذهب والمساعدات الدولية...

بمعنى أدق نجح في جعل الناس ينسون أن معركتهم الحقيقية ليست حول الحروف، بل حول حقوقهم، حول وطن تتمزق أطرافه، وعاصمة مختطفة، وشعب يعيش في جحيم الحروب والأزمات...

ولكن تُرى، كيف وصلنا إلى هذا الحال البائس؟ كيف تحول اليمني، الذي كان يشار إليه بالبنان لذكائه وفطنته، إلى كائن يخوض حروبا مقدسة حول النطق السليم لكلمة مطبخ؟ 
بل كيف تساوى المتعلم والأمي، المثقف والجاهل، في هذا الانحدار الرهيب ؟..

في الماضي، كان الجدل اليمني يدور حول أعظم القضايا: الجمهورية ، الوحدة، الثورة، النهضة، الشعر، الأدب. أما اليوم، فميدانه ساحات فيسبوك وتويتر، فيما تتطاير الشتائم والاتهامات بين أبناء الوطن الواحد: "أنت دخيل على لهجتنا!"، "أنت عميلٌ للهجة المحتل!"، "لهجتنا هي الأصل، أما لهجتك فمسخٌ غريب!"..

أيها اليمنيون، بالله عليكم، استفيقوا! 
أعداؤكم أبناء السلالة التافهة يسرقون أرضكم، ينهبون ثرواتكم، يشردون أبناءكم، ويدمرون مستقبلكم، وأنتم تتقاتلون على كيفية نطق كلمة بصل؟!..

يا لسخرية القدر!..
وريحهم...