صامـدون هـنا
فـي مدينة تُطِلُّ على البحر، لكن عطشها لا يرويه ماؤه، وتنام على ثرواتها، لكن فقرها يملأ أركانها، يقف أبناء عدن في وجه العواصف كل يوم، متشبثين بالحياة، صامدين في وجه العتمة، مؤمنين بأن النور لا بد أن يولد من رحم هذا الليل الطويل.
عــدن؛
التي كانت ذات يوم درة الجنوب وبوابة اليمن إلى العالم، أضحت اليوم شاهدة على تناقض مرير بين ماضي الازدهار وحاضر الإهمال، تتناوب عليها الانقطاعات: انقطاع الكهرباء والماء والرواتب والاهتمام، لكنها لا تنقطع عن الأمل.
كـل بيت فيها يحكـي قصة صبر لا تروى في الكتب، وكل شارع فيها يشهد على كرامة تقف رغم الانكسار.
فـي ظـل انقطاع الخدمات وتآكل البنية التحتية، يعيش العدنيون معاناة مزدوجة: معاناة الجسد ومعاناة الكرامة.
فـلا الكهرباء تنير لياليهم، ولا الماء يغسل تعبهم، ولا المؤسسات تؤدي واجبها تجاههم.
ورغـم كل ذلك، لا يغادرون أرضهم؛ لأنهم يدركون أن البقاء هنا ليس مجرد سكن، بل موقف، وأن الصمود في عدن فعل مقاومة بحد ذاته.
عـدن ليست مدينة تُهزم، فقد اعتادت عبر تاريخها أن تنهض من تحت الركام، وأن ترد على الإهمال بكرامة، وعلى القهر بالثبات، فيها من عبق التاريخ ما يكفي ليذكرنا أن هذه المدينة لا تُكسر، بل ترهق، فتستريح قليلاً ثم تعود لتبهر من جديد.
ولـعل المؤلـم في المشهد أن الوعود تنهال كالمطر في كل موسم سياسي، لكن الأرض لا تروى، والناس لا يرون إلا مزيدًا من الوجع؛ الوجع من انتظار لا ينتهي، ومن واقع لا يتغير.
ومـع ذلك، فـإن في كل بيت عدني طفلاً يبتسم رغم الظلام، وامرأة تصنع الخبز رغم انقطاع الغاز، ورجلاً يخرج إلى عمله رغم كل إحباط، وكأنهم جميعًا يقولون بصوت واحد: "صـامـدون هـنا".
ليـست عـدن بحاجة إلى خطاب سياسي، ولا إلى وعود منمقة، بل إلى من يشعر بألمها، ويعاملها كمدينة تستحق الحياة، لا كغنيمة تُقتسم؛ هي بحاجة إلى إدارة تحبها بقدر ما أحبها أهلها، وإلى كهرباء تنير أحلامهم، وماء يغسل تعبهم، وكرامة تحفظ مكانتهم.
وفـي النهاية، قد يقال الكثير عن عدن، لكن الحقيقة تختصرها كلمة واحدة "صـمـود".
فـمن يـعيش في عدن اليوم لا يعيش رفاهية، بل بطولة، ومن يصر على البقاء فيها رغم كل شيء، إنما يسكن مجدًا لا يراه إلا من عرف معنى الصبر حين يكون الوطن هو الجدار الأخير الذي نحتمي به من الانكسار.
صـامـدون هـنا...
ليـست القـسوة أن ترحل عن مكان لم يعد يمنحك سوى الألم، بل القسوة أن ترفض الرحيل عنه لأنه يستحق أكثر مما يمنح.
نـحن لا ننتظر بطلاً ينقذنا، بل نصنع الخلاص يوميًا بطريقة لا يفهمها سوى من يرى في عيني طفل عدني ذلك التحدي الغامض.
نـحن لا نحـبس أنفاسنا انتظارًا للفرج... بل نتنفس الأمل من هواء مالح يختلط برائحة البحر وصبر الأجداد.
هـنا؛
حـيث ينكسر كل شيء إلا الإرادة... نكتب بجروحنا فصولاً لن تقرأ في كتاب، ولكنها ستنطق بها الأيام القادمة.
صـامـدون هـنا...
لأنـنا نعلـم أن جذورنا هنا أعمق من كل محاولات القلع، وأن قصة حبنا مع هذه المدينة هي القصة الوحيدة التي لا نـهاية لـها.
د. هـاني بن محمد القاسمي
.



