في غربة الروح 3

   لعل حديثي هذه الليلة في غربة الروح حديث ذو شجون ؛ إذ نجد الهجرة ، والاغتراب ، والبعد عن الأوطان من الأمور التي قد تفرض فرضا على الإنسان في أي زمان ، ونحو أي مكان ، وهذه الأمور عرفها الكثير من البشر من قديم الأزمان ؛ منهم من هاجر لتحصيل العلم ، ابتداء من عهد الشافعي إلى يومنا هذا ، الذي تمتلئ فيه جامعات العالم بطلبة العلم ، ومنهم من اغترب عن وطنه بحثا عن لقمة العيش ، بعد أن ضاقت به الحياة في مسقط رأسه ، وهذا مايقوم به الكثير من أبناء وطننا العربي الكبير ، الذي حباه الله بالخيرات وملأ جغرافيته بالثروات ، لكن لطغيان حكامهم ، وفشل حكوماتهم تعزى الأسباب ، ومن الرحيل عن الأوطان مايكون بدافع الرغبة في نشر الدعوات ، وتبليغ رسالات السماوات ، وهذا ماقام به الحضارم اليمنيون في شرق آسيا وبعض أقطار أفريقيا ، من خلال نشر تعاليم الإسلام وآدابه السمحة ، فضلا عن فنون الصدق والإخلاص في تعاملاته ... 

   غير أن من الهجرة أيضا مايسمى التهجير القسري ، وهذا عادة مايحصل من الغزاة الطامعين والمحتلين لأوطان الشعوب المستضعفة المتخلفة الفقيرة ؛ إذ لايستطيع أولئك الطغاة تقبل الأحرار الرافضين لتواجدهم غير الشرعي ، فيقومون بتهجيرهم القسري عن أوطانهم ، أكان ذلك بقوة البندقية أم بفعل التسبب في انعدام الخدمات ومحاربة الحريات وغيرها ، الأمر الذي يضطرك إلى الرحيل عن وطنك قسرا ، وهذا هو الأخطر ؛ إذ يولد لديك مايسمى غربة الروح ؛ إذ تجد نفسك فجأة بين عشية وضحاها تفتقر إلى الحرية التي ولدت فيها ، وترعرع صباك عليها ، وكبرت حتى أصبحت شابا قويا في أرجائها ، وربما وجدت نفسك فاقد الكرامة ، التي طعمت من سنابلها ، وارتويت من فرات ينابيعها ، فضلا عن تباين الثقافات واختلاف الهويات ، وهنا تجد نفسك تتجرع كأسات غربة الروح ، وتعيش مآسيها ، بكل معانيها ، ألم يقل ذات يوم الشاعر العربي محمود سامي البارودي : 

وماكنت جربت النوى قبل هذه ** فلما دهتني كدت أقضي من الحزن