مابين الزنزانة والوطن وجعٌ لا يُحصى:قصص الصبر والصمود خلف القضبان، وأمل الأمهات والأبناء في وطنٍ لم يمت بعد..

في هذا الوطن المثخن بالوجع، حيث تُمطر السماء رمادًا بدل الرحمة، ويغدو الصمت واجبًا والهمس تهمة، صار الحلم جريمة، والكرامة شبهة، والنية احتفالًا يستحق الزنازين.

منذ نصف شهر، يقبع أخي عارف قطران وابنه عبدالسلام، وأوراس الأرياني، وماجد زايد، والمحامي عبدالمجيد صبرة، وقبلهم جميل شريان وابن اخيه محمد شريان، وحميد الأسد، ومحمد راشد المعافا في غياهب السجون، ومعهم مئات من الأحرار من كل ربوع اليمن. تهمتهم الوحيد أنهم، كما تروج السلطة، كانوا ينوون الاحتفاء بذكرى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة !

يوم النور الذي أشرقت فيه شمس الحرية على وطن كان غارقًا في ليل الإمامة الطويل.

خاف السجانون من شعلة الذاكرة فأطفؤوها بالحديد والاعتقال، لكن النار لا تموت، بل تتوارى في القلوب.

منذ اختطاف أخي وابنه الشاب الذي لم يتجاوز العشرين، صارت ليالي البيت موحشة، مبلّلة بالانتظار والأنين، تتقاسمها أمي العجوز المسنّة، وزوجة أخي المنهكة، وأطفالٌ يتامى الأب بالغياب، ينامون على وسادة الخوف ويستيقظون على حافة الجوع.

استيقظت من النوم وفتحت هاتفي الخلوي، وقد وصلتني رسالة قصيرة من ابن أخي عبدالرحمن، طالب في الصف الثالث الثانوي، لا يحمل في جيبه سوى الغم، وفي صدره وجع الرجال قبل أوانهم. كتب يقول:

"يا أبي عبدالوهاب، قل لهم يخرجوا أبي وعبدالسلام، يشوفوا مالهم وبيتهم، ما أنا مدريت ما أفعل، أشغب؟ أسمم؟ أسقي؟ ما بش معي ريال، وأريد أبعد لهم قات يومين، معي دراسة ثالث ثانوي، أريد أبكر أدرس وأذاكر، تعبت من الهم والغم..."

قرأت رسالته، ومرّت في صدري كالسهم. شعرت أن الكلمات تنزف بدل الحبر. هذا الطفل الذي لم يبلغ الثامنة عشرة يتحدث بوجع وطنٍ بأكمله.

اتصلت به عصرًا، وكان صوته متعبًا، تائهًا كمن فقد الاتجاه في صحراء من القهر. قلت له بصوت حاولت أن أجعل فيه كل ما تبقى من دفء:

 "يا ابن أخي، اصبر وكن جلداً على الأهوال صلبًا.

الحبس للرجال الأحرار الشجعان، وأبوك لم يُسجن في قضية باخسة ولا في تهمة تخلّ بالشرف والأمانة، بل سُجن لأنه نطق بالحق حين خرس الجميع.

هذا السجن ليس عارًا، بل وسام.

فكم من رجلٍ سُجن لأن ضميره كان أوسع من زنزانته،

اصبر وتجلّد، والمظالم من الناس، وما تموت العرب إلا متوافية، ولو دامت لغيرهم ما وصلت إليهم.

السجن من أجل قضايا الوطن ومصالحه العليا شرفٌ ما بعده شرف، ومجد وخلود، ورفعّة.

لا يجب أن نخاف من السجن، فقد سجن الأحرار والثوار: السلال، النعمان، الأرياني، الجائفي، وسُجن وأُعدم حسين بن ناصر الأحمر وابنه حميد، وغيرهم مئات من الأبطال قادة الحركة الوطنية اليمنية.

فلا يجب أن يخيفنا السجن، بل هو خلوتنا واستجمامنا، ولا فرق بين حياتنا وحياة السجن؛ نحن نعيش بسجن كبير، بل إن السجن يحررنا من الخوف ويخلصنا من قهر وقسوة مطالب الحياة اليومية التي تسحقنا، بعد أن فرضت علينا ظروف طارئة لا إنسانية: حروب ومجاعات، وخصخصة وتسليع للتعليم والصحة والكهرباء والوقود والغاز والماء وكل الخدمات الأساسية ووسائل المعيشة الضرورية.

ولنفرح بالسجن كما كان يفرح الأديب العظيم والشاعر المصري المرحوم أحمد فؤاد نجم، الذي كان يفرح بالسجن وسُجن من كل رؤساء مصر، وكان يقول لهم: السجن وضعه أفضل من أوطتي المكركبة الكئيبة المظلمة.

لايوجد لدي ما اخاف عليه.

التاريخ والمجد يصنعه الرجال الأحرار، والوطن يحتاج لتضحية الرجال الأبطال العظماء، ولا يجب أن تخيفنا السجون والقيود، والحياة كلها ظالم ومظلوم، غالب ومغلوب، ولو دامت لغيرهم ما وصلت إليهم يشلو طرفتهم.

كلنا ثوار، وكلنا أحرار، وسيغدو غدًا سجانهم ملطخًا بالعار.

والمجد والرفعة والشموخ لليمن ورجالها الأحرار الأبطال الذين ناضلوا من أجل حياة أفضل للشعب وضحوا من أجل الوطن بحياتهم ودمائهم وأعز ما يملكون."

كنت أحدثه وأحدث نفسي في آن واحد، أحاول أن أرمّم ما تهشّم في داخله وفي داخلي.

ثم اتصلت بي أمي، التي لم تنم منذ أيام من شدة القلق، وزوجة أخي التي أرهقها الحزن والعوز، واتصل بي ابن قريتي قناف شريان، أخو السجين جميل شريان، الذي قال لي بصوتٍ متهدج إنه لا يملك ريالًا واحدًا ليزور أخاه القابع في سجن بعيد بمديرية سنحان منذ قرابة شهر.

كلهم حاولت أن أرفع معنوياتهم بكلمات لا تملك إلا أن تكون عزاءً وسلاحًا:

"لا تتذللوا لأحد، لا تستعطفوا أحدًا.

من سُجن لأجل الوطن لا يُهان.

ومن اعتُقل في سبيل الكلمة لا يُسأل عن عزّته.

هذا ابتلاء الأحرار، لا امتحان الضعفاء.

السجن لا يخيف من كانت حريته في داخله."

وحين أنهيت مكالماتي معهم، شعرت أن شيئًا من الضوء تسلل إلى أرواحهم.

ارتفعت معنوياتهم كما ترتفع الشمس من بين الغيوم الثقيلة، وغمرني يقين أن الكلمة الصادقة قادرة على إنعاش الأرواح التي أوشكت أن تختنق.

لكن ما أثقل الليل حين يجيء بالتهديد!

فما إن نشرت خلال الأسبوعين الماضيين بضع كلمات عن مظلومية أخي وابنه، وعن مئات السجناء الذين زُجّ بهم لأنهم أرادوا فقط كما قيل أن يحتفلوا بذكرى الثورة، حتى انهمرت عليّ رسائل التهديد والوعيد من كل جهة: تهديد بالسجن من جديد، وتلميح بالتصفية الجسدية، وتخويف بالاختفاء الأبدي.

لكن أي رعب يمكن أن يزرعوه فيمن ذاق قعر الزنزانة وخرج منها أكثر إيمانًا بالحياة؟

أي خوف يمكن أن يسكن قلبًا لم يعد يرى في الموت إلا وجهًا آخر للحرية؟

تهديداتهم لا تُخيفني، بل تفضح إفلاسهم.

إنها سلطة متجبرة حد الطغيان في هيئة دولة، تصادر حقك، وتسجن أخاك، وتجوع أبنائه، ثم تطلب منك أن تصمت وتشكرها على طغيانها، أن تبتسم لجلادك، وتصفق للقيد في معصمك!

لكننا سنبقى نكتب.

سنكتب لأننا نعرف أن الحبر أقوى من الزنزانة، وأن الكلمة إن خرجت من القلب لا تُسكتها سياط الخوف.

سنكتب لأننا مؤمنون أن الحرية لا تُستجدى بل تُنتزع، وأن الحق، مهما طال حصاره، يولد من رحم الصبر لا من بطن الخنوع.

سلام على كل أم تنتظر عند أبواب السجون،

وسلام على كل زوجة باعت آخر ما تملك لتصل إلى زيارة لا يُسمح لها بها،

وسلام على كل طفل يكتب واجبه المدرسي على ضوء شمعة من صبر،

وسلام على كل مظلوم صامد، وكل مسجون حر.

وللسجانين نقولها بصوت هادئ كإيمان عميق:

لو دامت لغيركم ما وصلت إليكم، وما تموت العرب إلا متوافية.

الليل لا يدوم، والظلم لا يخلد، والحرية لا تُدفن مهما أحكموا القيود.

سنظل نؤمن أن سبتمبر ليس ذكرى،بل ضوءٌ أبدي في الوجدان.

وسنكتب حتى آخر قطرة حبر وآخر نبضة قلب.

#الحرية_لكافة_المعتقلين_المظلومين

#الحرية_لمعتقلي_ذكرى_ثورة_٢٦_سبتمبر

#اليمن_تستحق_الحياة