في الايديولوجيا والمقدس والمكرر...


بروفيسور / قاسم المحبشي ...

( لكي تُعبد اسطورة من الأساطير ردحا طويلا من الزمن لا تكتفي بايمان المؤمنين بل تتوسل القوة الفجة لقمع وارغام المخالفين) 

إذا تأملنا في السلوك الجمعي للجماعات المحلية منذ أقدم العصور؛ زمن الطوطمية؛ عبّاد الأشجار والأنهار والحيوانات، إلى عبدة الأصنام والأوثان والملوك، ثم إلى أتباع الديانات الإبراهيمية ( اليهودية، المسيحية، الإسلام ) بمذاهبها وفرقها المتشعبة، نجد أن ثمة فعلًا يتكرر: تحويل حركات بسيطة، أو أصوات محددة، أو ردود أفعال اعتيادية، إلى طقوس تحمل ختم القداسة. ما كان عاديًا يصبح ملزمًا، وما كان صوتًا بشريًا يصير ترتيلًا مقدسًا، وما كان حركة جسدية يومية يُعاد إنتاجه كإيماءة تعبدية. إن التكرار هو ما يمنح الفعل هيبته، والتقديس هو ما يغطي على رتابته. فحين ننزع عن الطقوس كساء القداسة وننظر إليها من خارج فضائها الرمزي، قد نراها أقرب إلى العبث أو المبالغة. ومع ذلك، فإنها تُكتسب معنى وقيمة داخل المنظومة الإيمانية التي تُعيد إنتاجها جيلاً بعد جيل. فكل المعتقدات الدينية جاءت استجابة لحاجات الجماعات المحلية إذ كان لكل عشيرة أو قبيلة أو جماعة محلية طوطم ( حيوان، شجرة، وثن، صنم)  تقدسه وتعبدها ولم تأتي المعتقدات الكلية الا بعد تاريخي طويل من التعارف والاحتكاك بين الجماعات البشرية في العصور الوسطى وقد كانت حياة الشعوب وثقافاتها تقليدية متشابهة في كل شيء تقريبا وذلك عبر تلاقح الثقافات وانتشارها في البيئات فبعد اكتشاف اللغة في أحد الثقافات، طورت الثقافات الأخرى أسلوب اللغة كأداة جديدة لاستخدامها كوسيلة تواصل ضمن أفراد الثقافة الواحدة. حيث تسعى كل فئة إلى تعديل اللغة بشكل يتناسب مع أفضل أسلوب يعبر عن ثقافة هذه الفئة. 
‎فكل الشعوب القديمة استخدمت الادوات والاساليب والطرق والعادات في تدبير حياتها 
‎النار والقوس والرمح والنشاب والزراعة والحيونات وكل شيء تقريبا ويعد الدين أحد أهم العناصر الثقافية المتأثرة بنظرية الانتشار الثقافي. حيث تتبنى أغلب الحضارات المجاورة لبعضها البعض نفس المعتقدات والمبادئ الدينية الأساسية، مع وجود بعض الاختلافات التي تعبر عن خصوصية كل حضارة. ففي المنطقة العربية انتشرت الأديان السماوية، وكان كل دين مكمل للدين الذي يسبقه مع الاحتفاظ بكثير من التعليمات الدينية بين الحضارة السابقة واللاحقة، ومن أشهر القصص التي تم انتشارها، هي قصة الخلق التي بدأت بالنبي آدم وزوجته حواء" ومن الطواطم البسيطة حتى المجردات المتعالية يسلم الناس وفقا لما يعتقدونه حقا وجديرا بالتصديق والتبجيل والتقديس 
‎، الحقائق لا توجد في جوف النصوص والكلمات كما توجد البذور في الثمار ، بل إن الحقائق توجد باتفاق وتواضع الناس عليها، فإذا ما اتفق جماعة من الناس واعتقدوا إن ما يفعلونه أو يفكرون به هو الحقيقة ذاتها بحسب باراديم رؤية وتأويل محدد للعالم والأشياء والكلمات والدلالات والرموز والنصوص. فلا شيء يحول دون اعتقادهم بإن ما يرونه هو الحقيقة عينها! ولكل جماعة من الناس الحقيقة  التي ترتضيها لنفسها وتعتقدها كذلك فمن يعتقد أن البقرة آلهه لا يشك في صحة اعتقاده لحظة واحدة وإلا لما اعتقد بِه اصلا! ومن يعتقد بشي يراه حقيقة ولا يراه باطلًا أبدًا ولا بطل اعتقاده وهذا هي طبيعة المعتقدات وتحولاتها في كل زمان ومكان ففي الهندوسية، يُعاد يوميًا تقديم القرابين لتماثيل الآلهة، حيث يُغسل الصنم ويُطعم ويُعطر، وكأن الحجر قد صار جسدًا حيًا يستوجب الرعاية وفي المسيحية، يتحول الخبز والنبيذ في القداس إلى “جسد” و”دم”، فعل بسيط للأكل والشرب يُحمّل معنىً كونيًا يتجاوز طبيعته المادية وفي الطقوس شيعية ، يتكرر اللطم والتطبير والضرب على الصدور في يوم عاشورا حتى تغدو الحركات الجسدية ذات طابع منذ عام 61 هـ (680 م) واقعة كربلاء في العاشر من محرم يوم مقتل الحسين بن علي، حفيد النبي محمد، مع عدد من أهل بيته وأصحابه على يد جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية وكذا تتكرر شعيرة الكثير من الطقوس والشعائر المقدسة عن جميع المؤمنين بالمعتقدات المقدسة بصيغة ميتافيزيقية لايمكن فهم معناها  إلا من خلال الإيمان الديني  ففي طقوس الشامان في أميركا الجنوبية، يصبح دخان نبات مُحترق بوابة إلى عوالم روحية خفية. هكذا، هي المعتقدات والعادات والعبادات التي يتوارثها الأجيال منذ الألف السنين فإن ما يبدو لأول وهلة مجرد تكرار ممل، يصبح في نظر الجماعة الإيمانية إعادة إنتاج للمعنى، وتثبيتًا لنظام رمزي يجعل من المكرر نفسه بوابة إلى المقدس. واللافت أن الحاجة إلى القوة – سواء كانت قوة العقيدة أو قوة السلطة – هي ما يحافظ على استمرارية هذه الطقوس ويمنع تفككها أمام النقد أو السخرية.  ومن ارد فهم البنية التكرارية للسياسة والمعتقدات المقدسة يمكنه قراءة كتاب ( نقد العقل السياسي) للفيلسوف الفرنسي روجيس دوبرية. اهم في فكك العثكلة بمنهجية عقلانية ولغة فلسفية لا يفهما إلا من له قلب سليم عقل متقد. 
كتب دوبرية " وهذه القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي, نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها, بنية التكرار والاستمرار ؟ وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي"..