الـرقـي بعـقول الأبـناء "أجـيال الـغد"

تـمثل العقول الواعية الثروة الحقيقية التي تتجاوز حدود المال والموارد المادية؛ فالأوطان لا تنهض إلا حين تمتلك أبناءً يحملون فكرًا ناضجًا، وإبداعًا متدفقًا، وقدرةً على تحويل التحديات إلى فرص. 

     ومـن هـنا، يكتسب موضوع الرقـي بعقول الأبناء أهمية بالغة، ليس بوصفه مجرد استثمار في التربية والتعليم فحسب، بل باعتباره مشروعًا حضاريًا متكاملًا لتشييد صرح الوطن عبر أجيال الغد.

     إن العـقل المفكر المبدع هو الذي يفتح للأمة آفاق النهضة؛ فالجيل الذي يُربَّى على النقد البنّاء، والبحث العلمي، والفضول المعرفي، هو جيل قادر على مواجهة الأزمات بأدوات العصر، وصياغة حلول تنطلق من الواقع وتستشرف المستقبل. 

     ومـتى مـا أدركت الأسـرة، والمدرسـة، ومؤسسات المجتمع المدني، أن تنمية الفكر الناقد والعقل المبدع مسؤولية مشتركة، فإنها تؤسس لمجتمعٍ متماسكٍ، يتغذى على العلم والمعرفة، بدلاً من الانقسام والجمود.

     ولأن الرقـي بالعـقول لا يتم تلقائيًا، فإن البحث عن الكوادر الوطنية المؤهلة يصبح ضرورة قصوى؛ إذ إن هؤلاء هم القادرون على غرس بذور الفكر والإبداع في عقول الأبناء، وترسيخ قيم العلم والمعرفة كخيارٍ استراتيجي للأمة. 

     غـير أن الخـطأ الفادح يكمن في "عـزل هذه الكفاءات" عن هذا العمل المقدس، وإقصائها لصالح من لا يخدم إلا نفسه، ولا يجتهد إلا في تكريس صراع العلم مع الجهل؛ فحين يُقصى أصحاب العطاء الحقيقي، يُفتح المجال أمام من يفرغ العملية التعليمية من جوهرها، فيتحول البناء إلى هـدم، والنهضة إلى عجزٍ وتراجـع.

     وفـي المـقابل، فإن إهـمال العـقول، والاكتفاء بتغذية الأبناء بالمعلومات السطحية، أو حصر تفكيرهم في قوالب جامدة، لا يعني فقط ضياع الطاقات الفردية، بل يمثل خسارة استراتيجية للوطن بأكمله. 

     فـالأمـم التي تُقـصي العقل وتكبح الإبداع تجد نفسها رهينةً للتبعية، عاجزةً عن صناعة قرارها المستقل أو منافسة غيرها في ميادين التقدم.

     إن الرقـي بعـقول الأبـناء هو الذي يمنح الوطن مستقبلاً مزدهرًا، ويخلق أجيالًا متسلحة بالعلم والقيم، قادرة على الجمع بين الأصالة والمعاصرة؛ وكلما أُحسن توجيه الفكر نحو الابتكار، وترسيخ ثقافة الحوار، وتعزيز قيمة البحث عن الحقيقة، كان الوطن أكثر قدرة على النهوض من كبواته، ومواجهة رياح التحديات بعقلانية وثبات.

     ولـذلك، فـإن بناء مشروع حضاري حقيقي يبدأ من الاعتناء بعقول الأبناء، وتحصينها بالعلم الراسخ، وتنميتها بالإبداع، وصقلها بالقيم الأخلاقية، عبر كوادر وطنية مؤمنة برسالتها التربوية. 

     فـالأجـيال القادمـة هي المرآة التي تعكس حاضرنا، وهي الامتداد الطبيعي لآمالنا، وبقدر ما نمنحها من رعاية فكرية وتربية معرفية، بقدر ما نصنع وطنًا يليق بمستقبل مـشرق وآمـن.

     وهـكذا، يصبح الاستثمار في العقل البشري هو رأس المال الحقيقي الذي لا ينضب، والجسر الوحيد الذي تعبر عليه الأمم من واقعها إلى مستقبلها.

     إذن، فـالمعركة الحقيقية لأي أمـة، هي معركة "عـقل ووعـي"، وليست معركة موارد وماديات. 

     وإنَّ الانـتصار فيها لا يكون إلا بتمكين العقل المفكر وإطلاق طاقات الإبداع الكامنة في أجيال الغد؛ فـعقول الأبناء هي الوعـاء الذي نصنع فيه مستقبل الأمة، والبذرة التي نغرسها اليوم لنحصد غدًا ثمارها "شجرةً باسقةً تظلل الوطن بأكمله".

 

     فـلتكن رسالتنا واضحةً جليّة: أن ننير هذه العقول بسبل المعرفة، ونغذيها بقيم الاجتهاد، ونحررها من قيود الجمود. فبهم نكتب فصلنا القادم في سفر التاريخ، فصلًا ينبض بالحياة، ويتوهج بالإنجاز، ويشع بالأمل، ضامنين لوطننا مقعدًا بين الأمـم الراقـية.

أ. مشارك د. هـاني بن محمد القاسمي

مستشار رئيس جامعة عدن للشؤون الأكاديمية

عـدن: 23. سبتمبر. 2025م

.