صمـود الموظـف في الداخـل "بـلا مـكافأة" 

 فـي زمنٍ باتت فيه مفردات المعاناة اليومية جزءًا لا يتجزأ من حياة الموظف في الداخل، يتجرع الآلاف مرارة الانتظار الطويل خلف راتبٍ هزيل، لا يحلُّ إلا كل شهرين أو ثلاثة، وكأنه منحة طارئة لا استحقاقًا مشروعًا.

     يقـف الموظـف صابرًا تحت وطأة الحرب وتداعياتها، متحملًا الغلاء الفاحش، وانقطاع الخدمات، وانعدام الاستقرار، ومع ذلك لا يُكافَأ إلا براتبٍ يتأخر عن أوانه، وتَذُوب قيمته قبل أن يُمسك به.

     وفـي المقابـل، ثمة من غادر الوطن مع أسرته ليستقر في الخارج، ينعم براتبٍ منتظم يُصرَف له بعملات أجنبية، وبأرقامٍ تكاد تكون خيالية إذا ما قورنت برواتب الداخل؛ لا أحد يعترض على أن يعيش هؤلاء في رفاهية وأمان، ولكن ما يثير الألم أن من بقي في الداخل، مرابطًا في موقعه ومتحملًا قسوة المشهد، لا يجد من يتذكره أو ينصفه.

     أليـس من العـدل أن يُضمَّ موظف الداخل إلى ذات الكشوفات التي تُصرَف تحت مسمى "الإعاشة"؟ أليست أموال الدولة ملكًا للجميع، لا تمييز فيها بين من غادر وبين من صمد؟

     إن الإنـصاف يقتضي أن تُعاد النظر في هذه المعادلة المختلة، وأن يُقدَّر من بقي صامدًا في قلب الوطن، لا أن يُترَك وحيدًا في مواجهة الغلاء والتحديات.

     إلـى صانـعي القـرار وأصحاب الشأن؛ التفتوا إلى من يقف في الداخل، إلى الموظف الذي لم يترك موقعه ولم يغادر وطنه، إلى من يواجه صعوبة الحياة بوجهٍ صابر وقلبٍ مثقل، أنصفوا هؤلاء بقراراتٍ عملية، وأضيفوهم إلى كشوفات الإعاشة والدعم، فهم الأحق بها، وهم عماد بقاء الدولة قائمة.

     أنـصفوا الموظـف الذي حافظ ولا يزال يحافظ على هيبة الجمهورية وعلى شرعيتها المعترف بها دوليًا.

     فـبدون وجـوده على مقعد العمل - على عكس من هاجر وانضم إلى كشوف الإعاشة - لما كانت الجمهورية قائمة بهويتها الحالية، ولما استقر النظام في المناطق المحررة.

     ومـا يحـدث في الداخل يعرفه الجميع، وتجاهل هؤلاء لم يعد مُحتمَلًا، واستمرار الظلم سيعمق الجراح أكثر مما هي عليه.

     ولا نـنسى أن الحـرب حين اندلعت شمالًا وجنوبًا، لم تُفرق بين أحد؛ الكل كان في مرمى نيرانها؛ غير أن هناك من هرول مسرعًا إلى الخارج، وهناك من صمد ولم يترك الوطن.

     فـهل يُكافَأ الصامـد اليوم بانقطاع راتبه أو بعدم انتظامه؟ وهل يُجْزَى بأن تفقد قروشه قيمتها الشرائية كل يوم؟ وهل يُعقل أن يكون الفارق المالي شاسعًا إلى هذا الحد بين من يعمل تحت وطأة أقسى الظروف في الداخل، وبين من يجلس بـلا عـمل في الخـارج، ليظهر في كل مناسبة بوجهٍ ممتلئٍ وبشوش، وكأنه لا ينتمي إلى بلدٍ يئن تحت وطأة الأوجاع والمآسي؟

عـليه؛

     فـإما إنصافٌ يُعيد للصامدين اعتبارهم، وإما إهمالٌ يدفن آخر بقايا الثقة بين من يحمون شرعية الدولة ومن يَفْتَرِضُون أنهم يمثلونها.

     ليكـن واضحًا للجميع: "الصَّمودُ لا يُورَثُ، والوَلاءُ لا يُخْتَبَرُ إلى الأبد"، كل يوم يمرُّ دون عدل هو دعوةٌ صامتة للانهيار، وضربةٌ أخرى لهيبة الدولة في عيون أبنائها.

     فليُعلَـمْ أن موظـف الداخل هو حامـي حمى الوظيفة العمومية للدولة، ورجل الخط الأول في مواجهة عثراتها ومنع سقوطها وضعفها؛ فـهو حارسُ الاستمرارية، وضامنُ بقاء مؤسساتها قائمة، يُكافح يوميًا ليس من أجل راتبه فحسب، بل من أجل الحفاظ على أُسُس الدولة وهُوِيَّتِها، وإهمالُه ليس إهمالاً لفردٍ، بل هو تفكيكٌ متعمدٌ لأحد أهم أركان صمود الوطن.

د. هـاني بن محمد القاسمي

عـدن: 8. سبتمر. 2025م

.