السياسية ؛ جعلت الحقوق الطبيعية مدنية عقلانية ...


بروفيسور / قاسم المحبشي...

https://link.arabicrenewal.org/a24

( الإنسان أناني بطبعه واجتماع بالاكتساب )   

الاستغناء عن الغير والاكتفاء بالذات؛ غاية الغايات وأمنية الأمنيات التي كانت ودامت ومازالت حلم الكائن الإنساني الاناني بطبعه والاجتماعي بالتطبّع ولكنها أمنية مستحيلة بسبب عجزه مواجهة تحديات الحياة بمفرده وبحسب ابن خلدون " الظلم من طبع الإنسان، فلا بد من وازع يزعهم عن بعضهم البعض، ولا يكون ذلك إلا بسلطان قاهر" وبهذا المعنى نفهم قول الخليفة عثمان بن عفان " ما لا يُزع بالقرآن، يُزع بالسلطان" تعبيرا على حاجة الحياة المشتركة إلى السياسة والسلطة السياسية حتى في المجتمعات الدينية الإيمانيّة الصادقة إذ أن الناس لا يرتدعون عن الظلم أو الفساد أو ارتكاب الجرائم لمجرد خوفهم من الله أو التزامهم بالدين وتعاليمه الاخلاقية بل لا بدّ من تدخل السلطان (الحاكم/الدولة) باستخدام السلطة التنفيذية لردعهم بالقوانين والعقوبات. والوازع عند ابن خلدون، هو القوة الرادعة التي تمنع الناس من التظالم والاعتداء على بعضهم البعض، وتحميهم من بعضهم وتحملهم على الالتزام بالنظام العام والشرع. وهو نوع من الرقابة الاجتماعية والسياسية التي تحفظ السلم والنظام في المجتمع وتلك هي وظيفة السياسة بوصفها تأطير وتنظيم حياة الناس المشتركة وأداة الشأن العام. وبحسب ابن خلدون هناك وازعان: الوازع الديني: نابع من الإيمان والتقوى والخوف من الله والامتثال لأوامر الشريعة والوازع السلطاني (السياسي)  النابع من سلطة الحاكم أو الدولة، الذي يُجبر الناس على الطاعة والانقياد للشرع بالقوة.واسطورة جرجيس في جمهورية أفلاطون فيها ما يكفي من الدرس والمعنى.بحسب الأسطورة الشهيرة كان جرجيس من ليديا راعي في خدمة العاهل العجوز كاندياس، ملك ليديا. بعد وقوع زلزال لجأ جرجيس إلى كهف يحتمي فيه، وبينما هو يستعد لمغادرة الكهف عائداً إلى قطيعه، عثر على خاتم دفعه الفصول ليضعه في أصبعه فإذا به يدرك أنه يخفيه عن الأنظار. كلما حركه باتجاه الداخل. جلس يفكر في حاله وفيما هو فاعل بمستقبله. اكتشف أنه غير راض إطلاقا عن حياته البسيطة ووظيفة الراعي فقرر أن يتخلى عنها ويبدأ حياة جديدة. كان أول ما خطر على باله أن يقوم بغواية زوجة الملك الفاتنة الجمال والمتقدة الأنوثة ويخطط معها لقلب نظام الحكم والتخلص من الملك العجوز والزواج منها. وفى ذات ليلة وضع الخاتم في أصبعه باتجاه الكف وذهب إلى القصر. مشى بين الحراس ولا أحد يراه حتى وصل إلى غرفة نوم الملك واتجه نحو فراشه وقتله. وفى الصباح التالى تزوج الملكة وأصبح هو نفسه ملكا على ليديا. ويرى الفيلسوف الفرنسي تزفيتان تودوروف في كتابه المهم ( الأنثروبولوجيا الفلسفية والحياة المشتركة)  إن الإنسان أنانيا بطبعه بوصفه كائنا حيا مدفوعا بقانون مقاومة الفناء والحفاظ على البقاء ولكن عجزه عن مواجهة تحديات الحياة بمفرده وحاجته الدائمة إلى الآخرين جعله اجتماعيا ومدنيا بالاكتساب جاء في القرآن الكريم تعريف الإنسان بوصفه كائنا أنانيا متوحشا:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ۖ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ( البقرة: 30)و في كتابه “الليفياثان” (Leviathan)، يعرّف هوبز الحق الطبيعي بأنه:" الحرية التي يمتلكها كل إنسان في استخدام قدراته الخاصة وفق ما يشاء من أجل حفظ حياته.”أي أن الإنسان، في حالة الطبيعة، له الحق المطلق في أن يفعل أي شيء يراه ضرورياً لبقائه، دون أن يكون مقيداً بقانون أو سلطة أو نظام. قوته قانونه وقدرته مرجعيته. هذا المبدأ هو الذي تم ترشيده في السياسة بوصفها فن ادارة القوة وقانونها الأساسي بوصفها فن الممكن( افعل ما تستطيع فعله ولا ما ترغب بفعله ) كما هو الحال في المرحلة الذئبية وشعارها ( إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب ) هنا تتوحد الرغبة مع القوة بوصفهما حقا طبيعيا لكل كائن حي! ولذلك يقول هوبز إن هذه الحالة تقود إلى “حرب الجميع ضد الجميع” ،حيث تكون الحياة متوحشة ، قصيرة، مسكونة بالعنف والتهديد والتوتر الدائم. وهذا ما يستدعي السياسة بوصفها تنظيما للحياة المشتركة وهنا بداية الحضارة فأول الحضارة هو الإحساس بالخوف من عاقبة الاعتداء على الآخرين ومن الضرر الذي يصيب الإنسان من اعتداء الآخرين عليه وهو الخوف الذي نعبر عنه بالضمير والوازع ومخافة الأذى والضرر جراء القيام بالذي صار اسمه بعدما لا يحصى من الزمن والخبرات والتجارب حراما وعيبا وممنوعا ولا يجوز" ويذهب فرويد إلى إن الحضارة بدأت حينما بدأ الإنسان في تنظيم دوافعه الغريزية عن طريق مجموعة من النواهي والتابو والقانون" أننا لا نعدم البراهين التاريخية التي تدعم فرضيتنا القائلة بأن الحضارة هي القوة التنظيمية في التاريخ قوة تشتمل على ثلاثة عناصر أساسية هي (السياسة والأخلاق, التشريع) فهذا عالم الاجتماع الفرنسي(غي روشية), يعرف الحضارة بأنها " تضم مجموع الوسائل الجماعية التي يلجأ إليها الإنسان حتى يمارس سيطرة على نفسه وينمو نمواً عقلياً وأخلاقياً وروحياً" والحضارة هي قدرة الإنسان في السيطرة على نفسة السيطرة التي لا تكون إلا بمعرفة قوانين التطور التاريخ والحياة الاجتماعية وتوظيفها في تحسين بيئة الحياة الإنسانية الجديرة بالعيش والتنمية. وبهذا المعنى كانت السياسة والسلطة السياسية ومؤسساتها الكبيرة والصغيرة هي شأن عام ولا يجوز أبدا التهاون في حمايتها والدفاع عنها من بعض  الاشخاص ونزواتهم. يمكن تجامل صاحبك أو تكرمه في الأشياء التي تخصك لوحدة إما المؤسسات العمومية فأي تخاذل في حمايتها وصونها يعد خيانة للمسؤولية واستهانة بما لا يجوز أبدا الاستهانة به فمهما كانت الاحوال والظروف. ثمة اخطاء وهفوات ومفاسد ومحسوبيات كثيرة جدا لكن حينما تتجاوز الحدود الممكن للمعنى يجب إن ترتفع الاصوات من كل ذي عقل بصير وضمير. مش يقع .. ما يسبرش .. غير ممكن هذا .. ومن المهم ايقافه ومحاسبة من تجرى على العبث بسمعة المؤسسات العامة ووظائفها الوطنية بتحويلها  إلى غنائم ( نضالية ) ومكرمات عائلية. 
الأشخاص يأتون ويذهبون بينما المؤسسات هي وحدها التي يمكنها أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون والتنمية.
ونحن الذين نقوم بتشكّيل مؤسساتنا ثم تقوم هي بتشكلنا، وكيفما نشكلها تشكلنا! والمؤسسات العامة في المجتمعات الحديثة لها حرمة مقدسة مثل حرمات المقدسات الدينية الإسلامية في مكة والمدينة والمساجد والمقابر وغيرها، التي يحرص الجميع على تبجيلها وحمايتها وصيانها وتنميتها دون قوانين ملزمة بل بالقيم والهيبة والشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاهها. والمؤسسات العامة التي ينتفع منها جميع أفراد المجتمع لا يمكنا أن تحمي ذاتها بذاتها بل يجب أن يحرص جميع أفراد المجتمع على حمايتها كما يحرصون على حماية منازلهم. فهل أدركنا ماذا تعني السياسة بوصفها مؤسسة عامة 
أنها تعني مصلحتك ومصلحتي ومصلحة الأجيال التي ستأتي بعدنا، ولا يجوز التهاون بها ابدا في كل حال من الأحوال، والمجتمع الذي يعجز عن حماية مؤسساته العامة القائمة ليس بمقدوره ابدا إعادة تأسيسها وبناءها بعد ضياعها. وليس هناك ما هو أصعب من بناء مؤسسة عامة في المجتمعات التقليدية.
نكرر القول دائما : 

إن السياسة بوصفها ادارة شؤون الناس العامة هي أنبل وأخطر المهام التي يمكّن إن يضطلع بها الإنسان وأثقلها مسوؤلية لذا ينبغي إلا تترك وظائفها دون معايير دستورية صارمة لا ينجح فيها إلا أكثر المتقدمين تأهيلا وقدرة وكفاءة فضلا عن السمات الشخصية التي يجب إن يتسم بها كل من اراد ممارستها ومنها: الحلم والحكمة والشجاعة وسعة الأفق وسلامة الطوية ونقاوة الضمير والحسد السليم. 
في المجتمعات التي وصلت إلى قناعة عامة بإن الإنسان هو الكائن الأهم في التاريخ  ومن ثم في يجب أن يكون غاية كل فعل وسلوك استطاعت إن تأسس الدولة المدنية الحديثة التي نادى بها إسبينوزا " " ليس الغرض الأقصى من الدولة أن تسيطر على الأفراد، ولا أن تكمِّمهم بالمخاوف، ولكن الغاية منها أن تُحرِّر كلَّ إنسانٍ من الخوف، حتى يستطيع أن يعيش ويعمل في أمنٍ تامٍ دون أن يضر نفسه أو يؤذي جاره.
إنّي أكرِّر القول بأنّ غاية الدولة ليست أن تحوِّل الكائنات العاقلة إلى حيواناتٍ متوحشةٍ أو آلاتٍ، بل إنّ الغرض منها هو أن تُمكِّن أجسامهم وعقولهم من العمل في أمنٍ، غايتها أن تهيِّئ للنّاس عيشًا يستمتعون فيه بعقولٍ حرةٍ، حتى لا يُنفقوا جهدهم في الكراهية والغضب والكيد والإساءة لبعضهم البعض. إنّ غاية الدولة الحقيقية هي أن تكفل الحريّة " 

#باروخ_سبينوزا (1632-1677) Baruch Spinoza
#كتاب: رسالة في اللاهوت والسياسة...