"ناشطون يمنيون: مقاومة الحرب بالكلمة والضمير"...

اليمن، الأرض التي مزقتها الحروب، لم يعد فيها متسع للكلمة، ولا مأوى لصاحب الضمير. في خضم صراع دموي تتقاسمه الميليشيات والسُلطة الغائبة، تحوّل الصحفيون والناشطون إلى أهداف مشروعة، لا لأنهم حملوا السلاح، بل لأنهم حملوا الحقيقة. بين ميليشيا الحوثي في الشمال، وفساد “الشرعية” المنفية، وسطوة المليشيات المدعومة في الجنوب، تنهار حرية التعبير تحت حذاء الاستبداد، ويُطارد الضمير الوطني كما لو كان جرثومة خبيثة يجب اجتثاثها. أن تكتب في اليمن، يعني أن تكون على استعداد للموت، أو الخطف، أو النفي، أو الجنون. أن تعبر عن رأيك يعني أنك اصطفت، حتى إن قلت الحقيقة كاملة، فالحقيقة نفسها أصبحت تهمة. كل الأطراف تقف على عتبة الصحفي والناشط حاملةً قائمة اتهامات جاهزة: “خائن، عميل، مرتزق، داعم للعدوان، ضد المشروع الوطني”. لا مكان للمستقلين. من لا يهتف لهذا الطرف أو ذاك، يُصنَّف تلقائياً عدواً للجميع. صارت الحيادية خيانة، والحياد تهمة، والكلمة الحرة سلاحاً يجب مصادرته بكل الوسائل، حتى وإن كلف ذلك اغتيال صاحبها، أو إخفاءه إلى الأبد. في الشمال، تمارس ميليشيا الحوثي القمع بوجهه الأكثر توحشاً. الصحف مغلقة، القنوات مستهدفة، والمدونون يقبعون في أقبية الموت. لا محاكمات، لا قانون، فقط سوط الأمن الوقائي، والاتهام الجاهز: “خيانة”. لكن في الجنوب، حيث يفترض أن تتنفس البلاد الحرية، المشهد ليس أكثر إشراقاً. سلطة الأمر الواقع هناك تكمّم الأفواه بذريعة “السيادة”، وتزج بالناشطين خلف القضبان لأنهم تساءلوا عن فساد، أو نشروا رقماً صادماً. تُداس الحريات في وضح النهار، ويتم تتبع الأصوات المستقلة كما تُتبع الخلايا الإرهابية. أما ما تبقى من “الشرعية”، فغارقة في الفساد والشللية والمنافي، عاجزة و متواطئة في مواجهة آلة القمع، إن لم تكن جزءاً منها. تتحرك باسم القانون، لكن في حقيقتها لا تختلف كثيراً عن أمراء الحرب الذين يقتاتون من خراب هذا الوطن. لم يعد الضغط على الناشطين يتم عبر استدعاء مباشر أو رسالة تهديد. صار الابتزاز يشمل العائلة. اعتقال أخ، تهديد أخت، استدعاء أم، أو خطف طفل… كل ذلك بات ضمن أدوات “الردع”. لا خطوط حمراء، ولا اعتبار لأي حرمة إنسانية. يتم التعامل مع الأسرة باعتبارها “نقطة ضعف” يجب استغلالها بوقاحة. أصبحت الكلمة مكلفة، لا فقط لمن يكتبها، بل لكل من يحمل ذات الاسم أو يسكن في ذات الحي. الحديث عن حرية التعبير في اليمن يشبه الحديث عن الدستور في مقبرة جماعية. كل ما يتعلق بالحريات العامة، بالمهنة الصحفية، بمسؤولية الكلمة، قد تم سحقه، ودفنه تحت ركام الحرب والفساد والإعلام الممول. الإعلام المستقل انتهى، والصحفي المستقل مهدد، والمواطن الذي يجرؤ على السؤال صار مشروع “مجرم رأي”. كل شيء يُشترى في اليمن: الولاءات، البيانات، وحتى الصمت. من يرفض، يُسحق. من يُصر على الكتابة، يُطارد. من يتمسك بضميره، يُخون. ورغم كل هذا الجحيم، لا تزال هناك أقلام تقاوم. لا تزال هناك أصوات تنزف على وسائل التواصل الاجتماعي، تنقل وجع الناس وتفضح القتلة، حتى وإن بدوا مختلفين في الزي والشعار. هذه الأقلام لا تحمل سلاحاً، لكنها تزرع الخوف في قلوب المستبدين. أن تكتب في اليمن اليوم، هو فعل مقاومة. أن تفضح الجريمة وأنت تعرف الثمن، هو بطولة حقيقية. لأن الصمت لم يعد خياراً، بل تواطؤاً مع الجريمة. في اليمن، الكلمة تُذبح، والضمير يُصلب، والحقيقة تُجلد في الساحات. لكن رغم كل شيء، هناك من لا يزال يكتب، لا يزال يصرخ، لا يزال يفضح… لا يزال يقاوم. ليس لأن النصر قريب، بل لأن السكوت خيانة. وهكذا، وسط هذا الخراب العظيم، يبقى بعض اليمنيين يقاومون ليس بالرصاص، بل بالحرف. يقاومون لكي لا يُمحى صوت هذا الوطن من ذاكرة العالم، ولكي لا تتحول الكارثة إلى واقع مقبول. يقاومون، لأن لا خيار لهم سوى ذلك.