تحرير بلا احتفال: عيد الوحدة في ميدان الغبار

في مساءٍ من مساءات أيار، وقبل أن تكمل الوحدة اليمنية عامها الخامس والثلاثين، آويت إلى فراشي مبكرًا، مثقلًا كغيمٍ يتيم، أرهقه البكاء دون مطر. كنت قد قضيت خمس ساعات متواصلة –من الرابعة حتى التاسعة مساءً– أقاتل من أجل بثّ نشيد وطني، نشيد خالد كالصباح، عذبٌ كذكرى، ناصعٌ كبياض الروح، نشيد "مايو وفي الثاني وعشرين منه"، بصوت عبد الرحمن الحداد، وكلمات المحضار التي شيدت ألف جنة فوق الجنتين. لكن كل محاولاتي أُجهضت، وكل الأبواب أُوصِدت، لا الأغنية وصلت، ولا الأمل تنفّس.

لعنت الهاتف الخلوي، والإنترنت السلحفائي، ومنصة "إكس"، وكل منظومة تكره الضوء، وتحارب الأغنية، وتستثمر في الطائفية والتفاهة وتكافئ السخفاء. أنا –بكامل عزلتي وعطشي الوطني– أسبح ضد التيار، بهاتف ميت، وبشبكة تشبه أنفاس مريض، أقاوم الموت بنشيد. لكن، ما جدوى الغناء في زمن الغبار؟

نمتُ باكرًا من فرط الإحباط، وصحوتُ على خفة الفول الحرضة والدخن، ففاحت في داخلي رغبة بالمشي، بالحجّ إلى قلب العاصمة، إلى ميدان التحرير، كي أتنشق العيد وأتفقد نبض الوحدة.

سرتُ شرقًا من بيتي، عبر البونية وبير العزب، تحت شمسٍ صيف صنعاء القاهرة، من شدة توهجها كأنها تجلد وجوهنا بقضبان من لهب. 

لم أسمع صوت الرصاص في فجر الثاني والعشرين من مايو، ولم يُوقظني زئير الزوامل ولا خطب التهديد. كان الصباح هادئًا على نحوٍ مريب، كأن المدينة قررت أن تنام يوم عيدها.

خرجت أتمشى في شوارع صنعاء، التي باتت تشبه صدرَ شيخٍ عجوز، كل تجاعيده تروي تاريخًا من الخيبات. لا زينة ولا بهجة، لا أطفال يرتدون جديدًا ولا أعلام ترفرف سوى تلك التي نسيت الريح أن تلامسها.

كان كل شيء هناك يصرخ بالصمت: الغبارُ، القمامة، الشوارع الخاوية، الأعلام المهترئة، والناس الذين يمشون كالأشباح. حتى الأغاني الوطنية، تلك التي كنا نرددها ونحن نحلم بمستقبل باهر، صارت تُخافت كأنها عورة، يُخشى صوتها.

كانت المدينة شبه نائمة، ممرات خاوية، محلات موصدة، لا زينة، ولا بشر يحتفلون. وعندما وصلتُ إلى عتبة شارع جمال، أشرفتُ على ميدان التحرير، فرأيت أعلام الجمهورية اليمنية تتدلّى من الأعمدة، كشهادات وفاةٍ علِّقت في مراسم صامتة.

دخلت الميدان، صاعدًا درجاته المهترئة، ولا شيء يوحي بأنه عيد وطني. غبار كثيف، أوراق شجر متناثرة يابسة، نافورة عاطلة، وروائح كأنها تعلن حدادًا صامتًا على وطن بلا فرح. الفقراء ينامون تحت الأشجار الجرداء، وأجسادهم تتوسد الأرصفة. إنها جمهورية الغبار، لا جمهورية الوحدة.

كان كل شيء حولي رماديًا باهتًا، وكأن المدينة قد أُفرغت من ألوانها. الجدران، الأرصفة، وجوه المارة، كلّها مغطاة بطبقة كثيفة من الغبار، كأن الريح قررت أن تحتفل وحدها فبعثرت تراب الحزن على وجوه الناس.

دخلتُ الميدان فلم أجد راية مرفوعة، ولا منصة منصوبة، ولا سماعة تبث أغنية وطنية. لا وجود للطفولة المبتهجة، ولا للورد البلاستيكي الذي كانت توزعه الطالبات من فوق العربات في مواكب الطفولة. لا أثر لموكب، ولا مسيرة، ولا حتى طفل يحمل علمًا صغيرًا يرفرف.

الصمت يخيّم على الميدان كما يخيم على المقابر.

كان بعض الشباب متكئين على الجدران المهترئة، يبيعون دخانًا مهرّبًا وسجائر رديئة بأسماء لا تشبهنا. ورجال بسطاء يعرضون بضائعهم على الأرصفة المكسورة: أقلام، مناديل ورقية، لعبًا بلا بطاريات، وأحذية قديمة لم تُلمّع منذ ولادتها.

مررتُ برجل ستيني يبيع كتبًا ممزقة وغبارها أثقل من ورقها، وأمام محله المتهالك كتب بخط يده: "كتب قديمة وجديدة.. فكرية، دينية، أدبية، وثورية."

لكن لا زبائن.

هو صديقي من زمااان اقتنيت منه زمااان عيون الادب العالمي "موبي ديك"والفردوس المفقود"وقصة مدينتين ،ومدام بوفاري.. وديفيد كوبر فلد،واوجيني غراندي،والاحمر في الاسود ،والحرب والسلام ،وجين اير ،ومرتفعات ويذرنج ووو..

.الخ..

أردتُ أن أقول له شيئًا يواسيه، لكنه بادرني بابتسامة ميتة وقال:

> "حتى الأفكار ماتت في هذا البلد يا قاضي!"

ثم رأيتُ وسط الميدان امرأة في منتصف العمر، تجلس تحت شمس مايو اللاهبة، تبيع مناديل ورقية، كانت ترتبها بعناية، وكأنها تعرض كرامتها على الرصيف.

نظرتُ إلى عينيها، فقرأتهما جيدًا:

فقر، خيبة، وجرعة كاملة من القهر الذي أطبقت أنيابه على كاهل اليمنيين.

سألتها:

"ما الذي جاء بك اليوم؟ ألا تعلمين أن اليوم عيد وطني؟"

نظرت إليّ باستغراب، ثم ضحكت ضحكة مُرّة وقالت:

> "أي عيد؟! نحن لا نأكل الرايات يا ولدي، ولا ندفع الإيجار بالأناشيد!"

مرّت أمامي لحظة طويلة كثلاثة عقود. الوحدة التي حلمنا بها لم تعد سوى شعار في نشرة أخبار مهجورة، والميادين التي كانت تهتز تحت أقدام الجماهير، صارت مجرد ساحات لتبادل القهر، أو محطات انتظار للفقر.

تمشيتُ طويلًا بين أزقة الميدان، رأيت الجنود في مواقعهم المعتادة، لا حركة استثنائية، لا زينة، ولا ضجيج. كأنهم اعتادوا الغياب، أو ربما صار الحضور فعلاً نادرًا مثل العدالة نفسها.

عدتُ أدراجي مثقل القلب، حافي الروح.

عدتُ كما خرجت، إلا من شيء واحد تغير في داخلي: اليقين بأن الوطن لم يعد يسكننا كما كان، ولم نعد نحن سكانه كما كنا.

إنه وطن يلفه الغبار، تتكئ جدرانه على ذاكرة مثقوبة، وتسنده دعوات الأمهات، وحنين الأطفال إلى خبز لا تبتلعه الحرب.

في يوم 22 مايو، وجدتُ التحرير بلا احتفال، والوحدة بلا وحدة، واليمن بلا يمانيين.

كلّ شيءٍ في هذا البلد العظيم بات في حدادٍ داخلي... لا يُرى، لكنه يُحَس.

تابعت المسير نحو شارع المناضل علي عبد المغني، ثم إلى باب السباح، حيث نساء يمنيات يبعن القات بأيدٍ مشققة، وعيون تتضرع للبقاء. كوبري التحرير –الذي كان نابضًا بالحياة– بات مغبرًا، مقفرًا، موحشًا، كأنما الوحدة مرّت من هنا وماتت.

جلست مع ابني في بوفية الربيع،المطلة على الميدان نحتسي كأس ليمون بارد، حينما تسللت من مذياع صغير أغنية وطنية لأيوب طارش. طلبت من صاحب البوفية رفع الصوت، فردّ بصوت خافت: "ممنوع يا عم... الأغاني الوطنية تفجع!" فصرخت: "ارفعه، اليوم عيد!" فارتفع اللحن، وامتلأ المكان بصوت أمل كعدل تشدو: "بلادي أحييك فلتسلمي..."

امتلأتُ بشعور مفاجئ، كأن روحي تتوضأ بصوت الوطن، نهضتُ وقد تفتّحت داخلي ياسمينة قديمة. مشينا في شارع جمال، والتجار يجلسون صامتين، الباع المتجولون يبيعون المنجو والموز بأثمان البؤس. الحياة هناك تشبه موتًا يتنفس ببطء.

رجل تهامي واقف على قارع رصيف شارع جمال ارتفعت امامه كومة من الليمون الحامض ، أهداني كيس ليمون، وقال بحنوّ: "كيلو بخمسمية يا عم." نقدته المبلغ، فصرخ بفرح: "يا نعمة الله دومي!" ثم صادفت امرأة تبيع الفاين، توسلت أن أشتري، فأعطيتها دون أن آخذ شيئًا، فهي تبيع أكثر من خبز، تبيع كرامة البقاء.

عدت إلى البيت خائرًا، وكل ما في المدينة امتص دمي. نمت الى قبل العصر، أرقب هاتفًا لا يرنّ، ولا صديقًا يدعوني للاحتفال. لا أحد تذكر أن اليوم عيد الوحدة.

وحين عدتُ إلى البيت، كنت أشبه بمن أنهكته رحلة في التيه، جسدٌ أثقلته أشعة الشمس، وروحٌ أضناها صمت الوطن وخرس الجدران. تمددتُ على فراشي، أسترجع مشاهد ذلك الصباح، كما لو كانت مرآةً مقعّرة تعكس انكسارات وطنٍ عتيقٍ يتنفس تحت الركام.

كان كل شيء هناك يصرخ بالصمت: الغبارُ، القمامة، الشوارع الخاوية، الأعلام المهترئة، والناس الذين يمشون كالأشباح. حتى الأغاني الوطنية، تلك التي كنا نرددها ونحن نحلم بمستقبل باهر، صارت تُخافت كأنها عورة، يُخشى صوتها. كأنَّ في الانتماء جريمة، وفي الحب للوطن تهمة، وفي النشيد الوطني همسة تمرد!

وأنا، القاضي الذي عشق اليمن منذ أن فتح عينيه على ترابها، شعرت بالعزلة. لم يتصل بي أحد ليهنئني. لم يدعني صديق لنتقاسم الخبز والحلم. لم يرسل أحدٌ رسالة يقول فيها: "كل عام وأنتَ بخير، أيها اليمني الجميل."

فهمتُ حينها أن الوحدة لم تمت، لكنها تُركت وحيدة على قارعة الطريق، تئنّ بين ركام الذكرى وصمتِ الخذلان. وأننا نعيش زمنًا يُحتفى فيه بالطائفة، ويُغتال فيه الوطن. زمنًا تُغلق فيه نوافذ الفرح، وتُشرّع أبواب الجوع والخوف.

نمتُ الى قبل العصر، كمن يهرب من مرآته، وأيقنتُ أن الاحتفال الحقيقي لا يُقام في الساحات ولا يُنقل على الشاشات، بل يُقام في القلب. وأن الأوطان لا تُبنى بالهتافات، بل بالوعي، وبعشاقٍ لا يخونون الحلم، حتى وإن خذلهم الجميع.

وحين صحوت، وجدتني أردد في سري:

وحدي، نعم، لكنني لست هشًا،

أنا الوحدة التي لا تُقاس بالعدد،

أنا العيد الذي لا يحتاج زينة،

أنا اليمن، حين تُحبها في صمت،

وتبكي لأجلها بلا صوت.

وعدتُ إلى كتابي، إلى رفيق الوحدة الأوفى، وقلت:

في زمنٍ صار فيه الآخر جحيمًا،

صارت الوحدة عبادة،

وصار خير جليس في الزمان كتاب.

لكنني، في وحدتي، وجدت يقينًا:

أن الآخر قد يكون جحيمًا،

وأن العزلة وطن،

وأن الوحدة، حين تغيب الأناشيد، تبقى عبادة لا يحتفل بها إلا الأنقياء.