احيانا تكون الذاكرة رهان حياة أو هلاك !!...
بروفيسور / قاسم المحبشي ..
في سياق قرأتي في موضوع الذاكرة والنسيان تبين لي إن الذاكرة بالنسبة للإنسان فردا وجماعة تعد حياةً موازية للحياة الطبيعية؛ أنها مهمة جدا للحياة بحسب الفيلسوفة ميري ورنوك إي هي ليست مجرد تذكر للأحداث والحوادث والخبرات والتجارب الماضية بل هي من يمنح الكائن العاقل القدرة ممارسة الحياة اليومية المباشرة ويضمن له الهوية والاستمرارية في الزمان والمكان ويجعله قادرا على مواجهة تحديدات الحياة الحاضرة وتخيل المستقبل والاستعداد له...
وبهذا المعنى يمكننا قراءة تعريف “برغسون” للذاكرة بوصفها ما تحتفظ به من تمثيلات وصور مشتقة من الممارسات والخبرات والأفعال التي يقوم بكل الإنسان كل يوم في حياته . ومن ثمَّ، فالذاكرة لا تشتغل إلَّا في هيئة ممتدة منقطعة، وتأخذ في الأغلب هيئات سيناريوهات، ولها صلة بالأنا من حيث هي هوية متصلة في الزمن، فكل تمزق أو انقطاع في امتداد الأنا تترتب عليه مشكلات في مستوى التعرف الذي يعدُّ وظيفة من وظائف الذاكرة: تعرُّف الذات نفسها وتعرُّفها العالم فكيف يمكن إن تكون حياتنا بدون الذاكرة الفعالة؟ وكيف يمكنني العيش إذا كنت أنسى كل ما تعلمته أو مررت به وخبرته في حياتي؟...
الذاكرة مهمة للفرد والجماعة فلا شخصية اعتبارية فردية أو جماعية بدون ذاكرة تمنحها الهوية والاسم والمعنى. وإذا كان النسيان بحسب نيتشة
هو القوة المطهرة للذاكرة حيث يرى أن نسيان الماضي يخلق هدوءا وسكينة في الحاضر، بل هو شرط أساسي لتطوير كفاءات وملكات جديدة. لهذا فمسح الطاولة وغسل الوعي من شوائب الماضي، أمر ملح لترك المجال لأشياء جديدة تتشكل. إن النسيان عنده يعد طوق نجاة من الغرق في الرتابة والقلق فالماضي، كما يصفه نيتشه، كحمل غير مرئي من الظلمات، بل يصير، أحيانا، «كجرح متقيح»، لا خلاص منه إلا بتشغيل ملكة النسيان التي تمنع الذكريات من اجتياح الوعي، فمن دونها لن تتحقق الصحة النفسية أبدا...
ويرى نيتشة إن حاضر الإنسان الزاخرة بالحيوية والإنجاز يمكنه إن ينسيه الماضي برمته " فعندما يعيش المرء لحظة قوية وبحرية قصوى، أو عندما يحب بجنون، أو عندما يبدع عملا، أو عندما يكتشف مجهولا من العالم، فإنه يكون متصالحا مع الواقع، ويحس بما يسميه نيتشه «خفة الراقص»، إلى درجة أن المرء يتمنى استمرار هذه اللحظات إلى الأبد" لكن النسيان ليس مفيدا دائما بل ربما يكون كارثة وهناك مثل معبر يضرب لوصف الإنسان الكثير النسيان، وربما الشعوب في بعض الاحيان بالقول ( لديك ذاكرة سمكة) ..
فالسمك من الحيوانات التي يعتقد أن ذاكرتها لا تدوم أكثر من ثلاثة ثواني وهذا ما يجعل اصطيادها سهلا جدا. إذ تبتلع الطعم في كل مرة وتنشب بها السنارة ولو كانت ذاكرتها قوية لما وقعت كل مرة في شباك الصياد مثلها مثل الفئران التي لا تستطيع التمييز بين الجبن الصحي والجبن المسموم! ربما تشترك معظم الحيوانات بما في ذلك الإنسان بملكة النسيان التي لولاها لتوقفت الحياة عند أول مأساة حدثت بين هابيل وقابيل...
فالذاكرة المفرطة مرهقة ومنهكة لا يستطيع حملها غير جهاز الكمبيوتر بوصفه جهازا آليا. الآلات وحدها هي القادرة على التذكر بدقة متناهية أما الكائنات الحية فقد قدّر عليها النسيان في زحمة الحياة وانشغالاتها اليومية إذ تضيع منّا مواقف وذكريات وتفاصيل كثيرة جدا. فالحياة الفورية المباشرة التي تعيشها الكائنات الحية في حاضر يضج بزحمة الحياة وتدفقها الدائم هي ما يجعل الحياة ممكنة...
وهكذا هي الأسماك التي تنسى الأشياء في غضون لحظات، وأنها تكاد لا تفعل شيئا سوى السباحة في المياه هائمة على وجهها حتى يلتهمها أحد الكائنات الأخرى. فكيف ستكون حياة الكائنات الحية إذ ما منحت ذاكرة قوية تجعلها على حذر دائما في مواجهة تحديات الحياة ؛ تلك التي تستدرجنا إلى خضمها في كل لحظة من لحظات عيشها التي نمنحها تسعة أعشار من وقتنا بلا ماض ولا مستقبل، والتي تشكل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمته أي “الحياة بلا مزايا” التي يسميها عالم الاجتماع جلبر دوران “بالجو الخانق” الحياة مغامرة دائمة في المجهول تلك طبيعتها..
فكيف يمكننا التوفيق بين ما نرغب؟ وما ينبغي أن نكون عليه؟ ومتى يمكن أن سيصبحان شيئاً واحداً ذات يوم؟ أما ما ينبغي إن نكون عليه هو إن نكون كائنات اجتماعية مقيدة بالتاريخ، وما نريد أن نكون عليه هو إن نكون سعداء..
وهذا هو المركب الديالكتيكي للتاريخ البشري عند كانط أولاً ثم هيجل ثانياً. لقد حاول كانط الجمع بين العقل واللعب، بين التاريخ تقدماً وبين خطة الطبيعة أو العناية الإلهية "بين السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في باطن نفسي. كما كتب فوق شاهد قبره. وفي مقالة "فكرة عن تاريخ العالم من وجهة النظر العالمية، عام 1784" أراد الجمع بين وجهة نظر الاستنارة ووجهة نظر الرومانسية، على نحو ما فعل في نظرية المعرفة حين جمع بين المذهبين العقلي والتجريبي...
فهو من ناحية يسلم بعبث الإنسان وشره إذ تصدر أفعاله عن غرائزه الأنانية وارادئه الجشعة، ولكن من ناحية أخرى يرى إن هذه الحالة من عدم الاستقرار واضطراب الطبيعة الإنسانية. هي نفسها وسيلة الطبيعة من اجل تقدم الإنسان، هناك غاية طبيعية لكل أفعال البشر التي تبدو عبثية..
فالحروب والتنافس والتدافع والطمع وتصادم الارادات الفردية تصب في المحصلة الأخيرة في الخطة الشاملة للطبيعة، هكذا جعل كانط أفعال الإنسان وسيلة يحقق من خلالها التخطيط الإلهي أهدافه في التاريخ العالمي...