زاهدٌ في الحكم.. وأميرٌ للمؤمنين!...

كان ذلك في الأيام الأولى لانتفاشة الحوثيين، حين كانوا يسوِّقون لأنفسهم بعبارات مطمئنة تليق بالسذج والمخدوعين. يومها، خرج أحد النخب المتأنِّقين، ممن يرون أنفسهم حكماء الزمان، ليقول بثقة العارف ببواطن الأمور: عبد الملك الح..وثي زاهدٌ في الحكم!

طبعا عبارة ملغومة، مشحونة بالخداع، أُطلقت كرشقة دخان لتغطي ما كان يُحاك خلف الكواليس. 
كان الحوثي وعصابته وقتها يزهدون في الحكم كما يزهد الضبع في جيفة سمينة! كان زهدههم حينها هو في السلطة التي لم تكن بعدُ في قبضتهم، أما عندما استحكموا في مفاصل البلاد، رأينا زهدهم على حقيقته: نهب، قمع، حروب، فرض الخُمس، تسخير البشر وقودا لرهاناتهم الطائفية، وإحياء كل أدوات الكهنوت البائد!

ترى، هل تراجع ذلك المثقف "الحكيم" عن عبارته الصادمة بعد أن رأى تداعيات صنائعه؟ هل كتب مقالا يعترف فيه بأنه خدع نفسه والناس؟ أم أنه -كعادة النخب الرمادية- وجد لنفسه ألف تبرير، مفضلا الصمت، لأن الاعتراف بالخطأ رفاهية لا يطيقها المتحذلقون؟

بالتأكيد لو كان عبد الملك ال..حوثي زاهدا في الحكم، فلماذا يصر على توريثه كأنه إرثٌ مقدس؟ لماذا لم يزهد في جباية أموال اليمنيين، ولم يتخلى عن تجيير الدولة لصالح عشيرته؟ لماذا لم يزهد في قتل الآلاف، وفي تصفية خصومه حتى من داخل حركته؟ لماذا لم يزهد في احتكار الحقيقة والسماء، وتحويل الشعب إلى رعية تنتظر "كرمه"؟

إن عبارة "زاهد في الحكم" لم تكن إلا فخا فكريا ساذجا، أو جريمة في حق الوعي. لكنها لم تكن وحدها، فقد سبقها كثيرٌ من الترهات عن "مسيرة قرآنية"، و"أنصار الله"، و"مظلومية أبدية"، وانتهت كلها إلى مشهد بائس: جماعة تحكم بالنار والدم، وتختزل الوطن في سلالة، وتحيل اليمن إلى مقبرة كبرى.

الآن، وبعد سنواتٍ من الخراب، قد لا نجد ذلك المثقف لنعاتبه. ربما انتقل إلى ضفة أخرى، أو احترف التذاكي وادعاء الحكمة بأثر رجعي، أو لعله -بكل بساطة- ما زال يراهن على خداع جديد، لأن بعض النخب لا تراجع نفسها، بل تكتفي بتغيير شعاراتها، كما يبدل السحرة حيلهم، فيسحرون أعين الناس، ويسترهبونهم.!