كرنفال المدينة أو عيد الفرح ..

مشينا حوالي ثلاثين دقيقة بقيادة مديرة الجروب السيدة كورين ونائبتها الآنسة روزانا. كان الجو مغيما مع دثيث بارد. لا يزيد عددنا عن الثلاث من النوع الاجتماعي معظهم أطفال في ابهاء حللهم المزركشة مع رسومات ملونة في وجوههم..

 كنا نسير في موكب فرائحي بخط المشاة والدراجات الهوائية بجانب الغابة باتجاه مركز المدينة الصغيرة التي تقع بمحاذاة الحدود الألمانية الشرقية. دينكاب مدينة صغيرة ولكنها مرتبة وهادئة وكما وصفها صديقي الفنان التشكيلي العراقي إلماني الجنسية بقوله : أجمل مدينة هولندية! التقيته في مسبح المدينة الراقي وهناك تعارفنا..

كان لوصفه الايجابي لدينكاب هذا إن   جعلني أفتّح عيوني على مزاياه الجميلة حقا.على أي حال ؛ واصلنا السيرة بخطى سريعة باتجاه مركز المدينة التي كنا نسمع صخبها الاحتفالي حتى منتجعنا. طبول قوية الإيقاع وموسيقى صاخبة الأصوات فضلا عن مواكب القادمين من اولدنزال بمختلف أشكال وأنواع السيارات والعربيات المفتوحة التي تحمل الحشود من مرتدي القبعات والأقنعة البهلوانية المزركشة..

 كان خط سير العربيات مزدحما يومها فضلا عن جموع الراجلين زرافات زرافات الذين يتدفقون من وسط الغابة باتجاه مركز المدينة؛ لأول مرة في حياتي ارى ماصدق المعنى ؛ معنى زرافات ???? زرافات ???? رأيتهن حقا وفعلا في صباح ذلك اليوم الذي جعلني في حالة من الدهشة والذهول مما أرى واسمع. وصلنا إلى المدينة فاذا بها وقد تحولت إلى مسرحية بالغة الروعة والإثارة  وسبب ازدحام الحشود وانسداد الطرقات الرئيسية المؤدية إلى مركز المدينة قادتنا كورين باتجاة اليمين لكي نلتف على نتمكن من الوصول إلى شارع العرض المكتظ بالختام المنصوبة لهذا الغرض. حينما وصلنا إلى المكان الذي يفترض الوقوف فيها شاهدت كرّسا فارغا تحت عرش خيمة مفتوحة فذهبت وجلست فيه. برهة من الزمن ربما دقائق فاذا بالآنسة روزانا تأتينا وتخبرني عبر المترجم الذكي بهذا العبارة التي رنة في ذهني  إذ قالت: (قاسم هذا الكرسي حق الشعب. انهض وتعال قف معنا) طبعا قالتها باللغة الهولندية مبتسمة لأنها تعرف مدى جعلني بالأمر كله..

كرسي الشعب  يا لها من عبارة دالة ! كان الجو كله مفعما بالفرح والبهجة .وقفت اتأمل المشهد محاولا فهم المعنى فسألت  السيدة المديرة الطويلة كورين ما هذا ؟ اليس عيد الفرح بالربيع؟ ضحكت وقالت: مازلنا في الشتاء انه كرنفال يا قاسم???? كرنفال ، كرنفال ..

تلك الكلمة عملت لي عصف ذهني وتداعي أفكار في بضعة ثواني إذ سبق وإن قرأتها عند الشكلاني الروسي ميخائيل باختين  إذ يعد مفهوم الكرنفال عند (Mikhail Bakhtin) جزءًا من نظريته حول الحوارية واللغة، وقد طوره في كتابه “إبداع فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصور الوسطى وعصر النهضة”. يشير الكرنفال إلى حالة احتفالية خاصة في الثقافة الشعبية، حيث يتم فيها قلب النظام الاجتماعي مؤقتًا، وإلغاء الفوارق الطبقية، والسماح بحرية التعبير والفكاهة الجريئة ويعتبر باختين أن الكرنفال مرتبط بمفهومه الأساسي عن الحوارية (Dialogism)، حيث يعبر عن تعدد الأصوات (Polyphony) وكسر الخطابات الأحادية الرسمية، مما يخلق مجالًا ديناميكيًا من الصراع والتفاعل بين وجهات النظر المختلفة وبعد المعنى يمكن القول إن الكرنفال ليس مجرد مهرجان، بل هو مفهوم فلسفي وثقافي يعبر عن رغبة الشعب وإراداته في خلق فضاءات محايدة للحرية والتحرر المؤقت من قيود المجتمع، مما يفتح المجال لتجديد الأفكار والنقد البناء بطريقة ساخرة وحرة..

في الواقع يرتبط الكرنفال بالحياة الإنسانية على هذه الدنيا أنه يشبع أحد الحاجات الحيوية في الحياة الاجتماعية: الحاجة إلى الفرح والسعادة والبهجة التي تتصل بالحاجة إلى اللعب والمرح فلّست الحياة كلها حرب وجد وتجهم بل لابد من فسحة للروح والجسد للفرح والمرح والابتهاج  (‎وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ) ٣٢ ‎الأنعام. هكذا هي الحياة كما وصفها الله سبحانه وتعالى في عدد من الآيات القرآنية منها (* اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ ... ﴿٢٠ الحديد﴾.

وكلمة لعب تطلق على أشياء كثيرة جدا منها؛ لعبة الحياة، ألعاب الأطفال الألعاب الرياضية ، اللعبة السياسية .الخ ‎ويعتبر نيتشه إن العلم هو أسمى أشكال النشاط الإنساني وحتى عندما خصص عالم الاجتماع روجي كايلوا في 1958 مصنفه الشهير عن «الألعاب والبشر»، فإنه لم يستطع تعريف اللعب في حد ذاته واقتصر على تعريفه بحسب حدوده: العمل/ الوقت/ الحرية/ الإنتاج/ الانضباط  ويعد اللعب ظاهرة اجتماعية عن الثدييات الرئيسية إذ أكد ‎من علم سلوك الحيوان وعلم الأعصاب الوجداني- أنَّ اللعب منتشر  انتشارًا واسعًا في فئة الثدييات. ملاعبة الصغار عند الثدييات وسيلة مهمة للمشاركة الاجتماعية التي تساعد الحيوانات على التعرف إلى الأجسام، وتعلم الهيمنة وعلاقات الخضوع، وتكوين صداقات التحالف، وتجربة شيء يشبه الفرح إلى حد كبير ‎يطرح بيتر فارب في كتابه: “صعود الإنسان إلى الحضارة” النظرية القائلة بأنَّ اللعب ربما ازداد ازديادًا كبيرًا عند البشر الأوائل عندما أصبحت الطفولة أكثر أمانًا، حيث أقحم الآباء والأمهات تقسيمًا جديدًا للعمل من خلال الترابط الزوجي. وخلقت أكثرُ الهياكل العائلية أمانًا واستقرارًا خلال العصر الجليديّ، قدرًا أكبر من الترفيه لأدمغتنا الكبيرة لملئها بالتعلم والإبداع واللعب( ينظر، مقاربة فلسفة للعب)..

  في الواقع لفت نظرية القدرة على انزياحات الهوية في الكرنفال الذي يعد تجربة بالغة الاهمية بالنسبة لي إذ يرتبط بقدرة الكائن على التمثيل. الحيوانات لا تجيد التمثيل لا في حالات نادرة بينما نحن البشر كائنات الهوية والأدوار المتعددة إذا إن الفاعل الاجتماعي يقوم بتمثيل ادوار عدة في حياته الاجتماعية البيولوجية ومنها: دور الابن/ البت،  ودور التلميذ/ التلميذة. ودور الطالب، الطالبة، ودور العريس/ العوس ودور الزوج/ الزوجة ودور الأم / الأب/  ودور الأخ / الأخت ودور الجد/ الجدة. الخ  من ادوار مؤسسة القرابة الأولى كما درسها عالم الانثربولوجيا الفرنسي ليفي شتراوس تلك البنية شبه الثابتة في حياة المجتمعات البشرية غير أن الادوار الاجتماعية الأخرى هي التي تتعدد للفاعلين الاجتماعيين من النوع الاجتماعي ومنها؛ دور الملك ، الراعي ، الوالي ، دور المواطن، الرعية ، السيد، العبد، ودور المعلم/ المعلمة/ والطيب والمهندس والسياسي والأكاديمي ورجل الدين والعسكري والفنان والكاتب والإعلامي ..الخ...

 فالشخص الذي يمارس المهنة الأكاديمية يمارس أدوارًا متعددة ومتكاملة منها: دور الباحث، ودور المدرس، ودور الإداري، ودور المشرف والمحكم العلمي (حارس البوابة) ولكل دور من هذه الأدوار قيمه ومعاييره المحددة بشفافية. فماذا رأيت في الكرنفال المتوارث عبر الاجيال من أقدم العصور؟  كما وصفه باختين في الصحة والحرية ، "ان الضحك يشيد عالمه المضاد للعالم الرسمي، وكنيسته المضادة للكنيسة الرسمية، ودولته المضادة للدولة القائمة. فالضحك يحتفي بجماهيره، ويعلن عن ولائه لها، ويحتفل بمناسبات زواجها، ويقيم قداساته على ارواح موتاها، ويحفر نقوشه على اضرحتها، ويختار ملوكها واساقفتها..

وحتى اصغر باروديا ( محاكاة ساخرة) قروسطية، يجري تركيبها كجزء من عالم كوميدي برمته"(ينظر، الضحك والحرية لميخائيل باختين،اعداد وترجمة : سعدي عبد اللطيف٢٠٢٤) إذ تعد الاحتفالات السنوية من الظواهر الاجتماعية التي رافقت حياة الإنسان منذ ماقبل التاريخ، بوصفها انزيحا سوسيولوجيا وسيكولوجيا عن السياق الاجتماعي الروتيني للحياة اليومية للشعوب؛ انزياح يتم التعبير عنه بتنويعات شتى من الأفعال والتفاعلات والعلاقات والممارسات والقيم والرموز عند مختلف الشعوب، فكل جماعة أو تجمع أو شعب من شعوب الأرض يمارس الاحتفال بوصفه تأكيدا للوجود والحضور وتعبيرا عن الفرح والسعادة بالحياة وإنجازاتها وتجديدا للطاقة وتحفيزا للأمل بالمستقبل. 

فالأحياء هم الذين يحتفلون بحياتهم دائما حتى وإن بدوا إنهم يحتفلون بأمواتهم. ففي الأزمنة القديمة ما قبل التاريخ كان الناس يحتفلون بأنفسهم وباعيادهم في سياق أسطوري شديد الالتصاق بالطبيعة وتقلباتها ومواسمها، وكانت أعظم الأحتفالات عند الشعوب القديمة هي احتفالات بالمطر والزرع والثمر وبحصاد الثمار نهاية كل عام وتوقعاتهم بما سوف تجود به السماء والأرض في قادم الأيام..

 لقد شاهدت في ذلك الكرنفال أشياء واشياء بالغة الأهمية والجمال ؛ مدينة صغيرة لا يتجاوز  عدد سكانها عشرة الاف نسمة عرضت خلال ثلاثة ساعات أخر انجازاتها ومنتجاتها الصناعية والزراعية والحيوانيّة والغذائية والفنية والخدمية ؛ حراثات وعربات حصاد وملاعب أطفال ومنتجات زراعية وصناعية وأيقونات من كل شكل ونوع في مختلف مجالات الحياة الطبية والصحية والتعليمية والأمنية وذلك بصورة بهلونانية بهيجة ، المواكب الكرنفالية التي كانت تمر أمامنا بعربيات وملابسها المزركشة وموسيقاها كانت تعبر عن عن قطاعات وشرائح المجتمع المدنية وليست العشائرية والقبلية والطائفية والمناطقية كما هو الحال في مهرجاناتنا( عمال وفلاحين وإداريين ومهندسين ، وأطباء ومعلمين ومعلمات وجامعيين وتلاميذ وطلاب ورياضيين ومربي الخيول ، وفرسان..الخ)..

 ومن السخف النظر الى احتفالات الشعوب المسيحية وكرنفالاتها بوصفها مجرد احتفادا دينيا وشجرة ميلاد وبابا نويل وكريسمس وشرب خمر أو غير ذلك من الرموز التي ترافق الاحتفالات الشعبية. إذ أن كل تلك الرموز والعناصر هي جزء من الباراديم الكلي للاحتفال الذي يعني أكثر منها بالتأكيد. وكلما كانت حياة الأفراد والشعوب منظمة ومستقرة وأمنة في قواعدها المؤسسية الراسخة كلما كان للاحتفال قيمة واهمية واعتبار، إذ يمكن لمواطني تلك الدول المسيطرة على ممكنات تاريخها أن يحتفلوا بما مضى من أيامهم وما حققوه من إنجازات في إطار العام الذي مضى بسعادة وفرح مصحوب بالأمل والتطلع الى مستقبل أجمل وأفضل. أما من يفتقدون قدر السيطرة على شروط حياتهم اليومية في بلدانهم ويعيشون حياتهم في مهب العاصفة وبلا مزايا كما هو حالنا في البلاد العربية المسممة بالحروب والفساد والخوف والخراب، بما يعجزنا عن توقع ما تخبئوه الليالي والأيام القريبة القادمة، فليس للاحتفال بتعاقب الأعوام بالنسبة لنا معنى واعتبار، فنحن نعيش في زمن دائري، يكرر باستمرار ما قد جرى وكان منذ قديم الازمان بمختلف الأنماط والصيغ والاشكال ودون أن نعي أن الزمان تاريخ وأن التاريخ يسير من الماضي الى الحاضر الى المستقبل،.

 كان يوما بهيجا حقا مرت ثلاثة ساعات ونحن واقفين نشاهد العرض بكل شغف بهيج  إلى حد أنني حينما انتهى العرض احسست بان قدمي تنملت ولم اتمكن من السير إلا بصعوبة..