الضحك والهزل والسخرية وجه أخر من أوجه التاريخ الجديد ..


بروفيسور / قاسم المحبشي .

خرجنا من صالون تفكير وندوة كاتب ( قهقهة فوق النيل ؛ اقتباس الكوميديا في السينما المصرية)كتاب ألفه الدكتور وليد الخشاب أستاذ الأدب والدراسات الثقافية في الأكاديمية الكندية. ادار الندوة الاستاذ جمال بن عمر مؤسس الصالون وصاحبه . لم يجذبني العنوان فقط الذي يذكر برواية نجيب محفوظ ( ثرثرة فوق النيل) بل جذبني أكثر معنى البحث في تاريخ الضحك والهزل والسخرية..

 وأنا استمع للمحاضر حدث عندي عصف ذهني وتثوير لمعلومات سبق وان استقرت في ذهني من قرأت سابقة منها؛ كتاب التاريخ الجديد الصادر عن المنظمة العربية للترجمة، من تقديم وترجمة: “د. محمد الطاهر المنصوري” وراجعه: “د. عبد الحميد هنية”؛ بطبعتين، الأولى سنة 1978 والثانية سنة 1988، و611 صفحة. الكتاب يحتوي على مجموعة مقالات لرواد التاريخ الاجتماعي الفرنسي، تحت إشراف المؤرخ الفرنسي “جاك لوغوف” من أمثال: “ميشيل فوفيل” ومقالته حول التاريخ والأمد الطويل، و”كريزيستوف بوميان” بمقالة حول تاريخ البنى، و”أندريه بورغيار” والأنثروبولوجيا التاريخية، و”فيليب أرياس” وتاريخ الذهنيات، “جان-ماري بيساز” وتاريخ الثقافة المادية، “جان لاكوتور” والتاريخ الآني، و”غي-بوا” ومقالته حول الماركسية والتاريخ الجديد، و”جان كلود شميت” وتاريخ الهامشيين، ثم “إفلين باتلاجين” ومقال حول تاريخ المتخيل، بالإضافة إلى مقالة المشرف على الكتاب: “جاك لوغوف” عرض فيها تعاريف التاريخ الجديد، ومدرسة الحوليات الفرنسية وآفاق هذا التاريخ ومقوماته..

 بعد قراءة كتاب التاريخ الجديد تغيرتي نظرتي الكلية للتاريخ التقليدي الذي اهتم  بتعاقب الدول والممالك والملوك والنظم السياسية والحروب المستمرة ولم يهتم بتاريخ الحياة البشرية على كوكب الأرض بل أخفاها تماما . فمكن المؤكد أن الناس في كل زمان ومكان قبل كما هو حالنا هنا والآن كانوا يمارسون أشياء كثيرة جدا في حياتهم غير السياسة والحروب ومنها( الفرح واللعب والتجارة والرياضة والعبادة والتعليم والتشريع والسفر والزراعة والحرف والموسيقى والشعر والرقص والتزاوج والطلاق والموت والمأتم وكل شيء يتصل بحياة الناس كما نحياها نحن تماما ) ومن ثم فمن المهم معرفة تاريخ تلك الممارسات كما مارسها الناس في أزمنتهم وسياقاتهم وتلك هي موضوعة التاريخ الجديد وباختصار هو بحث في تاريخ   كل شيء فعله الانسان أو فكر فيه أو أمل فيه أو حلم فيه.ويعد الأمريكي جميس هارفي روبنسون، الذي ورد اسمه في هذا التعريف أول من استخدم مصطلح التاريخ الجديد إذ كان قد نشر كتاباً في نيويورك في عام 1912 يحمل أسم (التاريخ الجديد)..

 جاء فيه: "ان الانسان ليجد عزاءاًً وراحة عقلية في ترك أي محاولة لان يعرف التاريخ وأن يقنع باعتبار: مهمة المؤرخ أن يكشف أي شيء عن ماضي الجنس البشري يعتقد أنه شائق أو مهم يستطيع أن يضع يده على مصادر المعلومات عنه"وقد أوضح الاستاذ بارنز أن ما هو جوهري في هذا التعريف لمصطلح التاريخ الجديد أنه يؤكد على البحث عن الأصل (Genetic Orientation)، كالبحث عن أصل الانسان وتطوره، وأصل التنظيمات الحضارية وتطورها...

 ومن هنا، فانه يرى أن على المؤرخ الذي يسعى لكتابة التاريخ على وفق هذا التصور الجديد أن يكون لديه إلمام كامل بطبيعة الانسان وعلاقته ببيئته الطبيعية والاجتماعية الامر الذي يمكنه من معالجة مشكلة إعادة صياغة الاوجه المختلفة لتاريخ الحضارة. وفضلاً عما تقدم، فإن على المؤرخ أن يتلقى تدريباً مناسباً لتحليل التطور في النظم، وهو التطور الذي يحفظ سجل سيطرة الانسان تدريجياً على بيئته المادية ونجاحه المضطرد في تنظيم الجهود التعاونية لبني جنسه. وهنا يؤكد الاستاذ بارنز، أن هذا النوع من التاريخ الحضاري يتطلب من المؤرخ الطموح الذي يسعى للعمل في ميدانه أن يكون مزوداً بمعلومات اساسية من "علم الاحياء، وعلم الاجناس البشرية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع. كذلك، فان عليه أن يتدرب تدريباً خاصاً في العلوم الاجتماعية، وفي بعض فروع العلوم الطبيعية، وعلم الجمال، ..."...

‏‎ان هذه المفاهيم الدقيقة والواضحة التي قدمها الاستاذ بارنز عن التاريخ الجديد، تفرض علينا أن نقر له بالدور الريادي في تأسيس وتطوير هذا التوجه الجديد في كتابة التاريخ. وقد أقر له بهذا الدور الريادي جاك لوغوف في كتابه المهم التاريخ الجديد بقوله: "يحيل نعت (الجديد) على (حركة التاريخ الجديد) التي انطلقت في سنة 1912 في الويات المتحدة، وخاصة إلى هـ. أ. بارنز (H. E. Barnes) الذي نشر في سنة 1919 كتاب علم النفس والتاريخ. .

والفرح والضحك والسخرية والترفيه يعد حاجة وحالة إنسانية عامة ولا يقتصر على جماعة بعيدة ومن ثم فلا غرابة إن يقتبس الناس من بعضهم الادوات والأشكال والأفكار التي تجد هوى في قلوبهم فجميعهم ابناء الكوكب ويعيشون التاريخ ذاته ولا شيء يأتي إلى التاريخ من خارجه ولا شيء يخرج منه وقد سبق وأن قرأت مقالات عن الروسي ميخائيل باختين (1895 – 1975) الذي أنجز مبحثه هذا كأطروحة دكتوراه العام 1949، ونشره بالروسية العام 1965، وبالفرنسية العام 1970. وهو اتخذ أعمال الكاتب الفرنسي الكبير فرنسوا رابليه دليلاً، والثقافة الشعبية والكرنفال مثالاً. المغربي شكير نصر الدين ترجم هذا المؤلف الموسوعي (605 صفحات) الى العربية، وأصدرته “منشورات الجمل” في مطلع العام 2015.وهو أهم كتاب تاريخ الضحك والسخرية والهزل، فلسفتها
 ومصادرها في الثقافة الشعبية والكتابية الأوروبيتين في العصر الوسيط وعصر النهضة:  
وربما كان العصف الذهني الأخير الذي تمخض عن ندوة الليلة هو ذلك المتصل بمحنة إبن رشد كما كتبها الأديب اللاتيني الشهير خورخي بورخيس حينما اراد ترجمة كتاب الشعر لأرسطو وكيف عجز عن ترجمة مصطلحي ( كوميديا وتراجيديا) ..

 واليكم  مقتطف من الحكاية: كتب الأديب اللاتيني الضرير خورخي لويس بورخيس في وصفة محنة ابن رشد مع ترجمة كتاب الشعر لارسطو طاليس قائلا " بالأمس وقف عند كلمتين مريبتين في بداية كتاب "الشعر" وهما "تراجيديا وكوميديا". لقد وجدهما سنوات من قبل في الكتاب الثالث من "البلاغة"، لم يسبق لأحد في نطاق الإسلام أن خمن معناهما، وبدون جدوى، أتعب صفحات كتاب الإسكندر الأفروديسي، وبدون جدوى، قارن بين الترجمتين اللتين قام بهما النسطوري حنين بن إسحاق وأبو بشر متى، والكلمتان اللغزان تتررددان في كتاب الشعر يستحيل تلافيهما. ترك ابن رشد القلم، وقال لنفسه (دون ثقة كبيرة) بأن ما نبحث عنه يكون عادة قريبا منا، خبأ مخطوط التهافت، واتجه نحو الخزانة حيث تصطف مجلدات كثيرة من كتاب "المحكم" للأعمى ابن سيدة منسوخة بأقلام خطاطين فرس، سيكون من باب الخداع أن نتخيل بأن ابن رشد لم يراجعها من قبل ولكن استهوته الآن لذة ورجع إلى تصفحها من جديد، وسمع صوتا رخيما نظر من الشرفة، في الفناء الأرضي الضيق فرأى بعض الأطفال يلعبون شبه عراة، كان أحدهم، واقفا على كتفي آخر، يمثل المؤذن بصورة بارزة : عيناه مغمضتان جيدا، وهو يتلو "لا إله إلا الله" أما الصبي الذي كان يحمله ولا يتحرك فكان يمثل الصومعة. وكان الآخر راكعا على ركبتيه في الغبار، يمثل جماعة المؤمنين...

استمر اللعب وقتا قليلا، فقد كان كلهم يريد أن يكون المصلين أو الصومعة، سمعهم ابن رشد يتشاجرون ويتعاركون في لهجة بريئة، يمكن القول إنها الإسبانية البدائية التي يتكلم بها عوام المسلمين في إسبانيا. فتح ابن رشد كتاب "العين" للخليل، وفكر بكبرياء أنه لا توجد بقرطبة (وربما الأندلس كله) نسخة أخرى من هذا المؤلف الكامل الذي أرسله إليه من مدينة طنجة الأمير يعقوب المنصور. ذكره اسم هذا الميناء بأن الرحالة أبا القاسم الأشعري، الذي جاء من المغرب سيتناول في حضرته طعام العشاء هذه الليلة في بيت فرج عالم القرآن. يقول أبو القاسم إنه بلغ مهالك امبراطورية الصين، ويقسم المشنعون، استنادا على ذلك المنطق الذي يتولد عنه الحقد أنه لم يصل أرض الصين أبدا. إن الاجتماع سيستغرق ساعات لا محالة ولهذا رجع ابن رشد إلى كتابة "التهافت" معجلا. وظل يعمل إلى حين الغروب" ( ينظر، خورخي لويس بورخيس، ابن رشد وقلق العبارة) والمعنى أن فيلسوف قرطبة العربي الذي لا تعرف ثقافته الفن المسرحي المرئي لم تسعفه اللغة وحدها من أكتشاف معنى الكلمتين اليونانيتين ( تراجيديا وكوميديا) في كتاب بويطيقا فن الشعر لأرسطو ..

وهكذا دائما تحجب الثقافة المعنى. ولو أن ابن رشد يعرف المسرح لما نظر في كتاب العين للخليل ولكان أكتفى بمشاهدة تمثيلة الصلاة والأذان التي كان يؤديها الأطفال في فناء المنزل...

كثيرة هي الأشياء والأفعال التي نمارسها في حياتنا اليومية بدون أن نتوقف عندها بالسؤال والتأمل في معناها ومن ذلك؛ الشعائر والطقوس والعبادات والعادات والتقاليد والفنون الأدائية  ومنها الرقص والبرع والموسيقى والغناء  والأفراح والأتراح وكل شيء يفعل الناس الاحياء في حياتهم اليومية ونحن منهم طبعا . أننا نعيشها بوصفها ممارسة بديهية (هابيتوس) بالمعنى البوردوي - نسبة إلى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو الذي صاغ المصطلح وعرفه ب "مجموعة العادات، المواقف، القيم، والميول التي يكتسبها الفرد نتيجة نشأته الاجتماعية وتجربته الحياتية" وحينما يتكرر السلوك الاجتماعي يصير عادة وحينما تتكرر وتترسخ العادة تصير ثقافة. وإذا تكيف الناس مع الثقافة واندمجوا في بنيته  تحولت إلى عطالة بوصفها ميلا للعقل والنفس لمقاومة كل تغيير وتجديد في الحياة المعتادة..

والإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يتميز عن الكائنات الأخرى بقلق البحث عن المعنى. الكائنات تعيش حياتها بطبيعتها الفطرية الغريزية  ولا تتوقف أبدا عند معناها يرى هيدجر إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يضع لوجوده معنى وبهذا يأتي قلق المعنى. أن وجود العالم هو وجودا حتميا أسبق من وجود الإنسان وليس بمقدور الإنسان غير منحه المعنى الذي يجعل الحياة الإنسانية ممكنة فجميع الكائنات الاخرى توجد في هذه العالم وفي متناول اليد لكنها لا تنشغل أبدا بمنح وجودها أي معنى غير الحضور في العالم بينما الوجود الإنساني(الدزاين Dasein) هو الكائن الوحيد القادر على التفكير والتساؤل حول معنى وجوده..

 يجب، حسب هايدجر، التمييز قبل كل شيء بين نوعين من الوجود: الوجود المبتذل والوجود الأصيل. في الأول، الإنسان هو مجرد رقم قابل للتبديل، نوع من الآلة بدون شخصية (das Man)، كيانه ينحصر في وظيفته الاجتماعية؛ ويعيش في عالم أليف، فالأشياء بالنسبة له أدوات وأواني، ويهيمن عليه الاهتمام بالخبز اليومي. فهو يعيش غير أنه لا يوجد. إن الوصول إلى الوجود الحقيقي يكون من خلال القلق. كل الناس قلقون، لكن معظمهم يرفض الاعتراف بذلك؛ إنهم يخفونه عن أنفسهم، ويدفعونه بعيدًا، ويقتصرون على الوجود التـ. ـافه. فقط الفلاسفة يوافقون على الترحيب بالمعـ. اناة وما تحمله من كشوف. فماذا يكشف. وبهذا المعنى نفهم نصيحة المنور الفرنسي جان جاك روسو حينما برر الحاجة الملحة إلى الفلسفة إذ كتب" أن أكثر الأشياء الحميمة بالنسبة لنا هي أكثرها بعدا عن فهمنا وهذا يستدعي الحاجة إلى الفلسفة كي نستطيع رؤية الأشياء التي نعيشها ونمارسها كل يوم في حياتنا"...