المساح .. المبدع المشاكس
كأنه البارحة، كان ذلك اليوم الذي رأيت فيه محمد المساح لأول مرة في بداية حياتي المهنية، وذلك في حجرة صغيرة بدائرة التوجيه المعنوي تم تخصيصها غرفةً لتحرير صحيفة (الثورة) الرسمية بعد ذلك الحريق المتعمد الشهير الذي إلتهم مقرها ومطبعتها منتصف سبعينيات القرن الماضي.
توالت بعد ذلك لقاءاتنا، وكان أكثر ما شدَّني إليه طريقته في الكتابة .. كتابة عموده المعروف (لحظة يازمن) ومنذ ذلك الحين عرفت أن المساح كاتبْ كبيرٌ وأديبٌ مبدعٌ فحسب، وليس صحفياً مثلنا يركض وراء الخبر أو يشتغل على التحقيقات والمقابلات، وإن كان احياناً يقوم بمراجعة بعض موادنا الصحفية.
ما كان أكثر لفتاً للإنتباه أن المساح ينصرف بكل حواسه وجوارحه لاقتناص الأفكار وتدوينها على أوراقه بخطه الخاص غير المنمق الذي كان يشبه إلى حدٍ كبير حياته وأسلوبه في العيش وعلاقاته بالآخرين.
كان المساح نزقاً غضوباً، ومهذباً متواضعاً في آنٍ معاً، وشارد الذهن كثيرا. خصوصاً في لحظات الكتابة، وذلك عد انتهائه من مضغ وريقات (القات) القليلة، وبقلقٍ واضحٍ يخط أسطره راسماً خواطره بعباراتٍ رشيقةٍ متوترة كأنها لوحاتٌ من أفكار أو تأملاتٍ مصورةٍ، أو تكاد تبدو نوعاً من الشعر المنثور، وليس مجرد مقالٍ صحفي وكفى.
الأهم من ذلك أن أحداً من قرائه الذين لا يعرفونه لا يكاد يصدق ان تلك الكتابات البديعة صادرةٌ عن ذلك الرجل القصير القامة، وذي الثياب الشديدة البساطه المشدودة على رأسه وجسده النحيل.
كان المساح معروفاً بصيحاته التي تسبق مقدمه إلى المكان، وبمشاكساته الجميله، ونقاشه الحاد، ولهجته الخاصة، ولعناته على الجهلة والأغبياء.، صريحاً لا يحب المداهنة على حساب ما يؤمن به ضميره.
لم أتفاجأ كثيراً عندما علمت في السنوات الأخيرة، أنه هجر صنعاء، وعاد إلى قريته، معتزلاً الحياة والناس، ومفضلاً داره القديمة لقضاء سنواته المتبقية من حياته بجوار ملاعب صباه وطفولاته الأولى، فذلك كان خياره الوحيد للاحتفاظ في داخله بالإنسان الذي لم يعد بقدرته العيش في عاصمة زادت قسوةً وتوحشاً، ولم يعد فيها من مكانٍ للأنقياء المرهفين أمثاله.
لمحمد المساح في داره الأبدية الرحمة والراحة والسلام، وله في قلوبنا المحبة والخلود..