الامور طيبة
لازلت اتذكر ذلك اليوم جيدا..
كانت الساعة الثانية بعد الظهر وقتها ،، وحرُّ عدن يذيب الاسفلت ! انطلقت الحافلة التي استقليتها بعد إلحاح ( الركاب ) للسائق بالتحرك سريعا..انطلقنا بشغف كاننا آخر الناجين من حربٍ ضروس ،، تسابقت الايدي إلى النوافذ لعلّ شيئا من النسيم العليل يحيي هذه الارواح المرهقة..هدأ روع الجميع وعم الصمت المكان الا من صوت شجي لأحدنا ...يدندن بحسرة وهو يلوك قليل من ( القات ) الذي اظنه قد مرّ في حلقه.. فقد كان يشدو قائلا..ذيب الفلا في غيبتك تحايم ،،،، ..على المواشي والبتول نايم،،،..
لقد كان كما فهمت احد العسكريين المتقاعدين من ابناء اليمن الممتد... الذين لازالوا يُناجون ذاك الذي ذهبَ وذهبت معه قهقهات الرضا وحلت مكانها زفرات القلق الطويلة..
بدات الحياة تدب في الحافلة باغنيته ..وبينما الرجل يتجاذب اطراف الحديث مع شباب كانوا قد فتحوا معه نقاشا تعارفيا لسحبه من دائرة الشجن التي اعترته .. فنحنُ أرقُّ من ان لا نتداعى لحزن احدنا..فامورنا في الاخوة دائما طيبة !!
فجأة تتباطأ سرعة الحافلة لكن لم يعر احدا الامر اي اهتمام..وإذ بالسائق ( العدني من اصول صومالية ) بلكنة عربية مكسرة يخاطب الركاب ( شوف تاير ناخس )..طالبا منا النظر من النوافذ وتفقد ما إذا كان احد الاطارات ( قد نخس ) !!.. حينها سمعت إجابة جماعية ( الامور طيبة ) ( امشي)...
وكرر السائق ملاحظته دون جدوى..لا احد يريد ان تتوقف الحافلة ،،فقد انطلقت متأخرة والقلوب في عز الحرارة واجفة..
جميع من في الحافلة من اجيال مختلفة ،،، نساء ورجال..لكن جميعهم يرون ان الامور طيبة " وان لا داعي للتوقف لمعرفة الخلل واصلاحه،،
واستمرت الحافلة على حالها... تترنح وما ان تصل إلى مطب حتى تسكن لدقائق لا باس بها..لكنهم يصرخون في وجه السائق ( ادعسس) " الامور طيبة"....
مضت رحلتنا فرحين بهمس النسيم المخادع الذي سرعان ما يختفي عند المحطة التي ينزل بها كل نازل..متناسين اننا قد نموت في اي لحظة .. فالامور حتما طيبة..
استمر الوضع بهاذة الحال ..ونزل اغلب ( الركاب ) عداي وامرأة وطفلها والرجل الذي كان يغني..
وكعادة اي رحلة لا بد لها من وصول..اقتربنا من محطة نزولي ..حينها استشعرت بالحافلة تميلُ شيئا فشيئا متكئة على الإطار الايمن الخلفي ،،هنا بدات اشك في ان "الامور قد لا تكون طيبة !
وفعلا نزلت بحمد الله،،وبينما اناول السائق النقود ..رنت عيناي باتجاه الإطار وإذا به ( فعلا ناخس)!!
همت الحافلة بالتحرك ..وتسمرت مكاني ارقبها قَلقة ..وهي تتباطأ وتكاد تخرج عن مسارها..
حينها لم اكن املك سوى دعواتي للباقين بالنجاة،،
وان تستمر امورهم طيبة...
ولا يحدث لهم اي مكروه ،،فالتاير "ناخس" والحافلة توشك على ان تعمل حادث مميت والامور... ابدا ..ليست طيبة،،،