الوحدة كما يراها المنتفعون



كذبٌ محض، بل وقح، ذلك الادعاء الذي يردده بعض أبناء الشمال بأنهم لم يجنوا من الوحدة شيئًا. فلو كانت الوحدة عبئًا عليهم كما يزعمون، لما تشبثوا بها بكل هذا الهوس، ولما جعلوا منها معركة وجود، لا تقبل النقاش ولا المراجعة. الحقيقة التي يحاولون القفز فوقها، أن الوحدة كانت ـ ولا تزال ـ مشروع امتياز، لا مشروع شراكة، وغنيمة سياسية واقتصادية، لا عقدًا وطنيًا متكافئًا.

تمسكهم المحموم بالوحدة لا تحركه دوافع دينية كما يُسوّق لها بعض علماء السلطة، ولا هي غيرة على دين أو وطن، بل طمع مكشوف في أرض وثروة وسلطة. لقد جرى تدجين الخطاب الديني لخدمة هذا الطمع، حتى باتت الوحدة تُقدَّم للعوام على أنها فريضة، ومن يرفض ممارساتهم يُكفَّر، ومن يعترض على نهبهم يُخوَّن، وكأن الله فوّضهم حراسًا على الجغرافيا، ووكلهم أوصياء على الإيمان.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن في الشمال من أدرك باكرًا عبثية هذا التمسك الأعمى، ورأى أن الإصرار على وحدة مفروضة بالقوة لم يعد سوى وقود للكراهية، واستنزافًا لما تبقى من وشائج إنسانية بين شعبين. هؤلاء فهموا ـ ولو متأخرين ـ أن وحدة السلاح لا تصنع وطنًا، وأن وحدة الخرائط لا تعني شيئًا إن تمزقت القلوب.

المعضلة الحقيقية أن كبارهم، ومراكز القرار لديهم، لا يؤمنون أصلًا بفكرة التعايش، ولا يعترفون بأن الأوطان تُبنى بالرضا لا بالإكراه. ولهذا يرفعون شعارهم الأشهر: الوحدة أو الموت، في اختزال فجّ لمعنى الدولة، وكأن الحياة لا تستقيم إلا تحت أقدامهم، وكأن الموت أهون من الاعتراف بحق الآخرين في الاختلاف أو تقرير المصير.

الأحداث، كعادتها، أكثر صدقًا من الخطب. فما تخفيه الصدور تفضحه الممارسات. وكلما ادّعوا الحرص على اليمن، تكشّف أنهم أول من فرّط به، وسلمه لإيران، ثم عادوا يتباكون عليه عندما تعلق الأمر بالجنوب. تكالبهم الأخير لم يكن حبًا في اليمن، ولا دفاعًا عن الحضارم كشعب، بل جشعًا في الأرض، وحرصًا على الثروة، وتمسكًا بإرث يعتبرونه غنيمة حرب لا يجوز التفريط بها، ولو كان الثمن دماء الجنوبيين.

لا عقل سليم يقبل بعقلية ترى في الشعوب مجرد عوائق أمام الأطماع، ولا قلوب حية يمكن أن تتعايش مع هذا السلوك المختل، الذي يقدّس السيطرة ويحتقر الإنسان. فالقضية لم تعد وحدة ولا انفصالًا بقدر ما أصبحت مسألة أخلاق سياسية: إما شراكة عادلة، أو افتراق بلا نفاق.

وفي النهاية، ستبقى الحقيقة بسيطة، مهما حاولوا تشويهها:

الوحدة التي لا تحمي الكرامة، ولا تصون الحقوق، ولا تحترم الإرادة، ليست وحدة… بل احتلال مقنّع، مهما تلحف بشعارات الدين والوطن.