ليس دفاعا عن عهد بل عن المرأة بوصفها إنسانا...


 الكاتب / بروفيسور قاسم المحبشي ...

ليست المرأة كائنًا ناقصًا أو تابعًا، بل إنسانٌ كامل الأهلية، يملك جسده وعقله وإرادته كما يملك الرجل تمامًا. وأي محاولة لردّها إلى مرتبة “الجارية” أو “المُلك اليمِين” ليست سوى بقايا وعيٍ قروسطي يتنكّر في ثياب الدين والأخلاق إذ إنّ الأفكار لا تولد في الفراغ؛ فهي انعكاسٌ مباشر لشروط الحياة المادية وأنماط العلاقات الاجتماعية. وما يعتقده الناس ويمارسونه ليس هو السؤال الفلسفي الأعمق، بل لماذا يفعلون ما يفعلونه؟ ولماذا تتكرر أنماط العنف والوصاية وكأنها قدرٌ أبدي؟ ذلك أن الأيديولوجيا – كما يُقال – تجعل الناس “يفكرون بأقدامهم”، أي انطلاقًا من إرثٍ موروث غير مفكَّر فيه، لا من عقل نقدي حر. وحينما يتكرر السلوك يتحوّل عادة، وما يترسخ من العادات يتحول ثقافة؛ والثقافة – بالمعنى الأنثروبولوجي – هي ما يبقى من الإنسان بعد أن ينسى كل شيء ولذلك ففهم العنف ضد المرأة لا يبدأ من تتبع مظاهره، بل من مساءلة جذوره العميقة في اللغة واللاوعي الجمعي والقيم المترسبة عبر القرون. فالعنف في مجتمعاتنا ليس حادثًا؛ إنه بنية تاريخية صنعتها السلطة والوصاية والخوف، وتمت صيانتها عبر مؤسساتٍ تستخدم المقدس لتثبيت الدنيوي، وتوظّف الوعّاظ لصناعة القبول الاجتماعي بالقمع.
والدولة ، حين تغيب بقانونها ومؤسساتها المستقلة، تُفسح المجال لغابةٍ من “الحراس”: حراس للأجساد والعقول ولطريقة اللباس والكلام، لكن بلا حارسٍ واحد لكرامة الإنسان وحقوقه. فالنظام لا يُبنى بالنوايا والمواعظ، بل بالقانون والمؤسسة؛ وكل خطاب يطالب بفضيلة بلا دولة هو خطاب يُخفي في جوهره نزعة قمع لا أخلاق في ذات السياق يأتي الحدث التحريضي للأيديولوجي الذي طال الإعلامية العدنية عهد ياسين؛ حدثٌ لا يتعلق بلباسٍ ولا بذوقٍ شخصي، بل بمحاولة إعادة إنتاج السلطة الذكورية القديمة عبر أجساد النساء. إن تحويل فستان إعلامية إلى “تهديد وجودي” يكشف عجزًا سياسيًا وفكريًا لفئةٍ لم تعد قادرة على تفسير وجودها إلا من خلال ضبط الآخرين وقمعهم.

فالتحريض الديني الذي مارسه بعض النواب ومنهم النائب العديني في تحريضه ضد المذيعة عهد ياسين في قناة الجمهورية. في 20 نوفمبر 2025، نشر البرلماني وعضو حزب الإصلاح عبدالله العديني (المعروف بآرائه المحافظة الإخوانية) منشورا على وسائل التواصل يهاجم عهد ياسين بشدة، واصفا إطلالتها بـ”الاستفزاز للمجتمع اليمني” و”محاولة لطمس الهوية الإسلامية” إذ كتب وربما خطب في الجامع الكبير" أنه رأى في صفحة قناة الجمهورية "مشهداً صادماً" بحسبه "لامرأة كاشفة الرأس والساقين والذراعين"، وأن هذا المنظر "يغضب الله ولا يرضاه الإسلام، ولا يقبل به الشعب اليمني المحافظ"، واصفاً إياه بأنه "من خطوات الشيطان" ومثله فعل النائب البرلماني المتشدد محمد ناصر الحزمي الشهير بموقف المشين ضد قانون زواج القاصرات في مجلس النواب قبل سقوط الجمهورية اليمنية. وقد كان لهذا التحريض الديني الرسمي ضد مذيعة عزلا ليس بمقدورها الدفاع عن نفسها نتائج كاشفة لم آلت اليه احوال حقوق الإنسان في اليمن 
فكم هو مرعب إن يهاجم آلالف الرجال فتاة مدنية؟ ففي اليمن لدينا حرّاس للسجون وحرّاس للحقول وحراس للعجول وحراس للعقول وحراس للكلام والفنون وحراس للقصور وحراس للمساجد  وحراس للجهل والظلام وحراس للاجساد والعيون.، لكل شيء حارس أكثر احتراسا من الكلاب ذاتها لكن لا أحد يتهم بحراسة الكائن العظيم الضعيف الذي يستحق الحراسة - الإنسان الذين فضّله الله سبحانه وتعالى على سائر مخلوقاته ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها وحمله الأمانة واستخلفه على أرضة اقصد الإنسان ذكرا كان أو انثى وحقوقهما وكرامتهما ومؤسساتهما العامة لا حارس لها ولا حماية إذ يمكن للقطعان المفلتة إذ أومي لها راعيها أن تهاجم فردا إنسانيا اعزل من النوع الاجتماعي بحمية وحماسة لا حدود لعنفها وتوحشها بتحريض مباشر من المسترزقين بجهلهم وتجهيلهم وتوجيههم لقد كتبت منشورا تضامنيا مع المذيعة عهد ياسين في صفحتي بالفيسبوك بتاريخ ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٥ فانهالت عليا التعليقات الشديدة العنف والتطرف إذ توعد بعضها بقتل المذيعة والتعزير بها وجاءت معظم التعليقات مشحونة بلغة عنيفة وبذيئة ومرعبة فاذا كل من لا يعجبه زي شبيهه الذي يمشي بجانبه في الشارع يطلب منه تغييره فهذا يعني أن الحرب سوف تظل دائمة بين المسلمين إلى يوم الدين. دعها تمشي دعها تمر! واصرف نظرك عنها يا هذا المعتوه إذ لم يعجبك زيها????️ 

إن تحريضهم ضد المذيعة ليس غيرة على الدين، بل رغبة في احتكار تعريف الفضيلة وتحديد من يحق له الظهور في المجال العام ومن لا يحق له، وكأن أجساد النساء مجالٌ مباح لصراعات السياسة والدين. وهذا التحريض ليس رأيًا، بل جريمة تمس سلامة فردٍ أعزل في مجتمع هشّ، وتعرّضه لخطر مباشر من جموعٍ يمكن استنفارها بكلمة شيخ ديني أو اشارة منه للقطيع المتوثب للهجوم باستمرار ففي حياة المجتمعات البشرية ثمة لغة صامتة توصل المعنى الحقيقي بأسرع ما تفعله الكلمات فحينما يصحى المجتمع على احتشاد الالف الرجال المتشددين ضد فتاة مدنية عزلا يطالبون بمحوها من على وجه الأرض لان زيها يخالف عاداتها وتقاليدهم فهذا يعني إن حياتها وحياة مثيلاتها في خطر. لا سيما حينما يتكى ذلك الخطاب التحريضي على مؤسسة ايديولوجية عمرها ١٤٠٠ عاما.فوصف فتيات بغير المحتشمات هي دعوة للقتل. إنها اللحظة التي ينكشف فيها خواء الخطاب التقليدي عن الهوية والدين والقيم و“المروءة” ليظهر الوجه الحقيق لثقافة القوى الظلامية المهيمنة التي تجاوزت كل الحدود، فلم تبق حرمة لجسدٍ ولا قداسة لحياة حرم الله قتلها. إن أخطر ما في الأمر ليس الهجوم على امرأة عاملة، بل تطبيع العنف وتحويل الوصاية إلى “فضيلة” وخنق حرية النساء باسم حماية المجتمع. وذلك يُعيدنا إلى السؤال الفلسفي القديم: لماذا تخاف السلطة من المرأة الحرة؟ لأن كل خطوة تخطوها امرأة في اتجاه الحرية تسقط حجرًا من البناء الأبوي الذي يقوم على الطاعة والصمت والخوف. وما جرى من تضامن اجتماعي ومهني مع عهد ياسين ليس دفاعًا عن ثوبٍ أو مظهر، بل دفاعًا عن الحق الإنساني الأول:
الحق في الوجود بلا خوف
والظهور بلا وصاية
والمشاركة في المجال العام بوصفها مواطنة لا تابعًا. بحسب القاضي عبدالوهاب  قطران 

سوسيولوجيا يبدأ العنف ضد المرأة قبل الولادة، منذ اللحظة التي يُتمنى الأبوين فيها أن يكون الجنين ذكرًا، ويمتد بعد ذلك في التربية والتعليم واللغة والزواج والقانون والفضاء العام وسوق العمل. إنه عنفٌ رمزي ومادي معًا، تتعدد أشكاله من الإخفاء والتحقير إلى الحرمان من التعليم والعمل والمشاركة، وصولًا إلى العنف الجنسي والسياسي والقانوني.

وفي اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، يصبح من الضروري القول بوضوح:
إن معركتنا ليست مع ظاهرةٍ عابرة، بل مع بنية ثقافية كاملة لم تُخضع بعد لنقد جذري.
ومعركة حرية المرأة ليست معركة النساء فقط، بل معركة المجتمع كله ضد الخوف والوصاية وضد تحويل المقدس إلى سوط، وضد تحويل السياسة إلى رقابة على أجساد الآخرين. 
فالفضيلة لا تُقاس بستر الساقين، بل بستر الفقراء وصون الكرامة وحماية الضعفاء.
والأخلاق لا تُختبر في طول الفستان، بل في مقدار العدل والحرية اللذين يمنحهما المجتمع لأفراده.
ومن يحوّل جسد امرأة إلى ساحة حربٍ أخلاقية، يمارس أعمق أشكال الانحطاط الأخلاقي والديني والإنساني.

إن ما حدث للمذيعة العدنية عهد ياسين يجب أن يكون بداية وعي جديد، لا مجرد حادث يُطوى في أرشيف العنف؛ وعيٌ يضع الإنسان – رجلًا كان أو امرأة – في مركز الوجود، ويعيد تعريف الحرية بوصفها شرطًا للكرامة، لا ترفًا ثقافيًا. 
ختاما اكرر القول للمرة الالف :

المرأة هي مصدر ومحور كل تنمية مدنية وثقافية وحضارية ممكنة، ولا تنمية مستدامة بدون تمكين المرأة وإشراكها الفاعل في مختلف فعاليات الحياة الاجتماعية، فالتنمية شراكة مجتمعية، والمرأة هي وطن الأوطان كلها، أول منازل الكينونة المشمول بالأمن والأمان والرعاية والرضاعة والحب والحنان، والحبيبة الحضن الدافئ والسكن الحميم ثاني منازل الحب والإشباع والاستقرار والإنجاب، هذا فضلًا عن مكانتها المحورية في تشكيل العائلة والبيت والمنزل، وما لكل ذلك من دلالات اجتماعية وسيكولوجية.

إن التفكير بالمرأة هو التفكير بالكائن الإنساني الحقيقي جدًا، الأم والزوجة والأخت والبنت والعائلة والمجتمع والمؤسسة والوطن والدولة والرعاية والتربية والحب والحنان والسعادة والتسامح والأمل والحاضر والمستقبل. إذ كلنا ولدنا من أرحامهن، ورضعنا حليبهن، وتربينا في أحضانهن، وتعلمنا برعايتهن، وعرفنا لذة الحياة بهن، ومعظم أحلامنا بهن، ونعيش من أجلهن، ونفرح بنظرة واحدة منهن، ونسعد بابتسامة واحدة من أعينهن، ونكتب أجمل قصائدنا من وحيهن وفيهن ومن أجلهن، ونكتب أروع الروايات فيهن وفي مداراتهن، ونستمد ثقتنا بذواتنا منهن، ونشعر بالسكينة والأمن والأمان معهن، ونتمنى إرضاءهن ورضاءهن والجنة تحت أقدامهن، والبعض منا يعبد الله من أجل الفوز بأكبر عدد منهن في الآخرة، ومع ذلك مازال بيننا من يحتقرهن ويفتكر حاله أفضل منهن. أية ثقافة تلك التي شكلت مجتمعنا اليمن بعد الملكة بلقيس؟ يقول عالم النفس التربوي الأمريكي آرثر كوفر في كتابه "خرافات في التربية": "يسلك الناس وفقًا لما يعتقدون. فإذا اعتقدت أن شخصًا أمينًا فسوف أثق به، وإذا اعتقدت أنه غير أمين فلن أثق به. إننا نسلك وفقًا لما نعتقد. وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة، نستطيع أن نحدث قدرًا كبيرًا من التقدم. أما إذا كانت معتقداتنا خاطئة، فإنها تعوق هذا التقدم وتحبط آمالنا، وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر" (آرثر كوفر، خرافات في التربية، ترجمة: عبدالمجيد شيحة، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 1990م، ص1)...