الإصلاحات تحتاج تكاتف الجميع
فـي لحظات التحوّل الكبرى، لا تُقاسُ قوة الأوطان بما تمتلكه من موارد، ولا بما ترفعه من شعارات، بل بما تُظهره من إرادةٍ جمعيةٍ تتقدّم على الأهواء، وتسمو على الحسابات الصغيرة.
وفـي اليمن اليوم، تبدو الحاجة ملحّة إلى إدراك بسيط في ظاهره، عميق في جوهره: أن الإصلاح الحقيقي لا يصنعه فرد، ولا تنتجه مؤسسةٌ منفردة، بل ينشأ من وعيٍ عامٍ يتقاطع فيه إخلاص الدولة مع صدق المجتمع.
الإصلاحـات ليست حزمة قرارات تُعلَّق على الجدران، وليست خطابات تُلقى في المناسبات؛ الإصلاحـات موقـفٌ أخلاقي قبل أن تكون مشروعًا سياسيًا، وعقدٌ وطني يقوم على حسن النية، واستعداد الجميع لطيّ مرحلة الاختلافات العقيمة، وتحويل مسار البلاد من دائرة الصراع إلى فضاء البناء.
والمـشهد اليمني – بتعقيداته وتشابكاته – لـن يلين أمام الشعارات الفارغة، ولن يستجيب لمحاولات تجميل الواقع، مهما أُحسِنَ إخراجُها. فالأزمة بلغت من العمق ما يجعل أي تغييرٍ مرهونًا بقدرٍ كبير من الصدق مع النفس، والجرأة في الاعتراف بالأخطاء، والنزاهة في إدارة المرحلة القادمة؛ ذلك أن الأوطان لا تنهض بالمواربة، ولا تبرأ جراحها بأنصاف المقاربات.
ولأن الإصلاحـات تحتاج إلى كتفَيْن، لا كتفًا واحدة، فإن المسؤولية اليوم مشتركة:
· الـدولة مطالَبة بإعادة ضبط بوصلتها، وترسيخ قواعد الشفافية، وإحياء مؤسساتها بروح المصلحة العليا.
· القـيادات المجتمعية والسياسية مطالَبة بالتخلّي عن لغة المصالح الضيقة، وصناعة توافقات لا تُقصي أحدًا.
· المواطـن مطالَب بأن يكون جزءًا من الجهد الوطني، لا متفرجًا يكتفي بتوصيف الأزمة ثم يحمّل غيره وزر النتائج.
بـل إن أهم ما تحتاجه المرحلة القادمة هو نية صادقة؛ نية تُخَلِّص العمل العام من شوائب الثأر السياسي، وتفتح المجال للكفاءات التي أُقصيت لسنوات، وتعيد الاعتبار لمعادلة «الوطن فوق الجميع».
فالنـوايا الحسنة لا تعوّض عن الخطط، لكنها تمنحها الشرعية الأخلاقية، وتمنع انحرافها عن الهدف.
إن اليمن يقـف اليوم عند مفترقٍ لا يحتمل التردد؛ فـإما أن نرتقي إلى مستوى التحدي، ونجعل من التكاتف قاعدة العمل الوطني، أو نـترك الفرصة تفلت مرة أخرى من بين أيدينا، وندفع ثمن غياب الإرادة الجمعية. والتغيير – حين يأتي – لا يسأل عن أسماء المشاركين فيه، بل عن حجم شجاعتهم، وصدق مقصدهم، وإخلاصهم لوطنٍ أتعبته التجارب القاسية.
إن اليـمن اليوم لا يطالب المستحيل، ولا ينتظر معجزة تهبط من السماء، بـل يطلب شيئًا واحدًا ظلّ نادرًا في لحظات الانقسام: أن يصدق النّاس مع وطنهم. فالبلاد التي أثقلتها الحروب لا تُشفى بالقرارات وحدها، بل بقلوبٍ تؤمن أن المستقبل لا يمنحه الآخرون، بل نصنعه نحن إذا اجتمعنا على كلمة سواء.
وإذا لـم نمنح هذه الأرض نيّة خالصة، وجهدًا مشتركًا، ومساحة لرجالها ونسائها المخلصين، فلن نخرج من الدائرة التي أضاعت من أعمارنا ما يكـفي.
ومـا لم نتذكّر أن اليمن أكبر من خلافاتنا، وأبقى من كل سلطة، فلن يرحمنا التاريخ، ولن تصفح عنا الأجيال القادمة؛ أما إذا صدقت النوايا، واصطفت الإرادات، وارتفع صوت الوطن فوق كل الأصوات، عندها فقط سيبدأ اليمن مرحلة جديدة، تتكئ على حكمة ماضيه وتطلّع أجياله وتنهض من تحت الركام، كما نهضت أمم عظيمة من قبل.
فالإصـلاح ليس شعارًا نردده، بل عهدٌ نكتبه مع أنفسنا: أن نكون بمستوى الوطن الذي يستحق أن نحمله في قلوبنا قبل أن نحمله على خرائط العالم.
إخـوة الوطـن؛
إن اللحـظة التاريخية تتطلب منا أن نكون صفًا واحدًا خلف قيادتنا الحكيمة، وأن نشارك بجدٍ واجتهاد في دفع عجلة الإصلاح التي يقودها فخامة رئيس الوزراء.
فهـي السبيل الوحـيد لتحقيق النهضة المنشودة، والوصول بوطننا الحبيب إلى بر الأمان والاستقرار، حاملين معًا شعلة البناء والتقدم.
د. هـاني بن محمد القاسمي
عـدن:
.



