ممداني والعاطفة العربية ....

ناجي البشري ...

القراءة العربية لهذا الحدث كشفت عن وجه آخر للأزمة الثقافية والسياسية في المنطقة. فقد استقبل كثيرون فوز ممداني بفرح عاطفي مبالغ فيه، كأنه انتصار رمزي للإسلام أو للعالم العربي في قلب الإمبراطورية الأميركية.
جرى في العالم العربي ابتهاج بفوز ممداني، عبر قنوات فضائية ،وامتلأت وسائل التواصل بعبارات الاحتفاء، كأن انتخاب عمدة في مدينة أميركية يعوض عن الإخفاقات العربية والإسلامية تجاه أزماتها ومعضلاتها. هذا التلقي العاطفي لا يعكس فهما للحدث بقدر ما يعبر عن جرح نرجسي في الوعي العربي، يبحث عن أي انتصار رمزي خارجي لترميم الشعور الجمعي بالعجز.


فالناخبون الذين التفوا حوله لم يفعلوا ذلك بدافع الانتماء العرقي أو الديني، بل بسبب شعور متنام بأن النظام القائم لم يعد يلبي حاجاتهم، وأن الطبقة السياسية في واشنطن باتت بعيدة عن واقعهم. في هذا السياق، وحسب رأيي المتواضع  يمكن قراءة الحدث على أنه مؤشر على نهاية مرحلة ما بعد ترمب التي أعادت الشعبوية اليمينية إلى الواجهة، وبداية مرحلة جديدة تتشكل فيها شعبوية يسارية ذات طابع حضري وشبابي، لا تتحدث فقط بلغة الغضب، بل بلغة البرامج والسياسات الاجتماعية. ومع أن هذه الموجة لا تزال محدودة جغرافيا، فإنها تمتلك مقومات التوسع: التنظيم الرقمي، والزخم الطلابي، واستثمار الغضب من التفاوت الاقتصادي.

صحيح أن فوز زهران ممداني في سباق رئاسة بلدية نيويورك لم يكن مجرد حدث انتخابي محلي، بل تحول سياسي عميق في قلب النظام الأميركي، ومؤشر على أن التيارات التقدمية والاشتراكية الديمقراطية بدأت تجد لنفسها موقعا في الساحة التي لطالما كانت حكرا على النخب التقليدية للحزبين الكبيرين. أن ينتصر مرشح يصف نفسه صراحة بأنه "مسلم اشتراكي ديمقراطي" في المدينة التي تمثل رمز الرأسمالية العالمية، وسط هيمنة البنوك والعقارات والإعلام،وفي مدينة يعيش فيها ثاني أكبر تجمع يهودي في العالم ،بل ويكسب ممداني نحو ثلث أصوات الناخبين اليهود.
 فهذا يعني أن المزاج السياسي الأميركي بدأ  في اتجاه غير مألوف منذ عقود.

وخاصة أن التطرف الإسرائيلي مع «نتنياهو» وصل حدا لا يمكن للعالم أن يتحمله، وقد أصبح الشعب الأميركي مستعدا للتخلي عن إسرائيل وعن عنجهيتها ومجازرها، وهو ما أدركته إسرائيل متأخرة وباتت تسعى لوضع خطط لاستعادة تأييد الشعب الأميركي بعد صدمة انتخابات نيويورك، والخبر منشور في موقع «العربية نت».
وحيث أن ترمب سمح لنتنياهو بتدمير غرة وقتل عشرات الآلآف من سكانها، وهذا خطأ سياسي في التقدير.
من زاوية أعمق، فإن نجاح ممداني يؤكد أن الوعي السياسي الأميركي بدأ ينتقل من ثنائية الهوية والعرق إلى ثنائية الطبقة والعدالة الاجتماعية. 

باختصار؛ ممداني ليس نتاجا لهويته الدينية أو العرقية، بل ثمرة حراك اجتماعي وسياسي أميركي داخلي، مرتبط بالتحولات الطبقية والمجتمعية في نيويورك، وليس بموقعه كمسلم أو ابن المهاجرين. تحويل هذا الحدث إلى لحظة "انتصار للأمة العربية " يكشف عن أزمة خطاب عربي يعيش قلق الهوية أكثر مما يعيش وعي السياسة.

ولكن نحن علينا أن نتعلم من هؤلاء اللقطاء الأجناس ،الذين جاؤوا على ظهر البواخر من كل أنحاء العالم ،دون متاع ودون شعارات ،ولكن بإصرار على النجاح والتفوق ،هم الذي صنعوا معجزة إمريكا ،بحبهم وولائهم لها، بينما نحن على فائض عواطفنا وكثرة أناشيدنا وأشعارنا ،وعراقة جذورنا أخفقنا نحن في تقبل بعضنا، وفي حب أوطاننا؟!!