"الحالمة" من مدينة الثقافة إلى ساحة الاغتيالات
"كانت" تعز تعرف بـ"عاصمة الثقافة اليمنية"، مدينة الوعي والمدنية، منارة للعلم والمعرفة، ومركزا للفكر والانفتاح. احتضنت المدارس والجامعات والمراكز الثقافية، وتفتحت شوارعها على كتب تُقرأ، ومقاه يتناقش فيها الفكر، ومنابر يُعبر فيها عن الرأي بحرية.
تعز، التي أنجبت قامات أدبية وفكرية وسياسية، لم تكن مجرد مدينة، بل "كانت" مشروع دولة.
لكن تعز اليوم لم تعد تلك المدينة.
في جولة سنان، وسط المدينة، اغتيلت افتهان المشهري، مديرة صندوق النظافة والتحسين، في وضح النهار، برصاص مسلحين مجهولين، كما اعتادت المدينة أن تسمع هذه العبارة، حتى باتت الجرائم بلا هوية، والقاتل بلا حساب.
لم تكن افتهان مجرد موظفة حكومية، بل رمزا لامرأة مكافحة، حاولت أن تعيد لوجه المدينة بعضا من نظافتها ونظامها وسط الفوضى. لكن رصاص الفوضى لا يفرق بين رجل وامرأة، مدني أو مسؤول.
منذ أن بسطت الجماعات المتطرفة، وفي مقدمتها جماعة تنظيم الإخوان الإرهابي، سيطرتها على المحافظة، تحولت تعز من مدينة السلام إلى ساحة للانتقام وتصفية الحسابات.
انفلتت الأجهزة الأمنية، وتلاشت سلطة الدولة، وسيطر السلاح والمليشيات. أصبح القتل مجانا، و"البلطجة" قانونا غير مكتوب. لم يعد الإنسان في تعز آمنا على نفسه، لا في بيته، ولا في شارع، ولا حتى في وظيفته.
إنه سقوط المدينة في قبضة الفوضى.
ومن ثقافة التنوير إلى ثقافة الرعب،
"كانت" تعز في الماضي تنتج الوعي، تصدر الكلمة، وتعلم الأجيال.
كانت المدينة التي تلجأ إليها المحافظات الأخرى لتتعلم منها المدنية.
اليوم، أصبح الخوف هو الثقافة السائدة، والسكوت هو لغة البقاء.
منابر الثقافة أغلقت، والمدارس تهددها الفوضى، والمثقفون إما صامتون، أو مغيبون، أو مرغمون على الرحيل.
والمؤلم أكثر، أن كثيرا من مثقفي المدينة، الذين كان ينتظر منهم أن يكونوا صوتها الحر، نسوا تعز، وأداروا ظهورهم لما يجري فيها، وتحولوا إلى أقلام مأجورة تبث سمومها تجاه عدن وما يحدث فيها، بينما يغمضون أعينهم عن الدماء المسفوكة في شوارع مدينتهم، والجرائم التي ترتكب أمام أبواب منازلهم.
تلك الأقلام القذرة التي اعتادت أن ترفع شعارات الحرية، أصبحت شريكة في التعتيم، ومجرد أدوات في مشروع سلالي لتشويه مدن أخرى والتغطية على مأساة مدينتهم.
تعز ليست أول مدينة تنهار تحت سطوة السلاح، لكنها أكثر المدن وجعا، لأن سقف الطموح فيها "كان" عاليا، لأنها "كانت" قاب قوسين من أن تكون نموذجا. ولهذا، فإن السقوط كان مدويا، ومؤلما، وكارثيا.
لا يمكن أن تفهم مأساة تعز إلا من خلال معرفة ما "كانت" عليه، مدينة متحضرة، تقرأ وتكتب وتحلم.
أما اليوم، فهي تقرأ أخبار الاغتيال، وتكتب عن الموت، وتحلم فقط بالنجاة.
ورغم كل هذا السواد، يبقى الأمل في قلوب أبناء تعز الذين لم ينسوا مدينتهم الحقيقية، ولا يزالون يحلمون بعودتها. الأمل في أن تستعيد المدينة عافيتها، وتنهض من تحت الركام، وتطرد السلاح والدم، لتعود كما كانت "مدينة للإنسان، لا للموت".