أزمة رواتب الموظفين في المناطق المحررة.... بين المطرقة التضخمية وسندان الإيرادات المهدورة

يمر الاقتصاد اليمني بمنعطف خطير، تتمثل أبرز تجلياته في الأزمة المتعثرة لصرف رواتب الموظفين الحكوميين والعسكريين. هذه الأزمة لا تهدد فقط استقرار حياة ملايين الأسر المعيشية، بل تُهدد أيضاً بإشعال خلاف مؤسسي بين البنك المركزي اليمني من جهة ورئاسة الوزراء والجهات التنفيذية من جهة أخرى، في وقت يُحتّم فيه الوضع ضرورة التوحد نحو حلول جذرية.

في خضم هذا السجال، يرى محللون اقتصاديون أن تقييم الخيارات المطروحة يجب أن يتم بشكل موضوعي، بعيداً عن الضغوط السياسية والشعبوية، معتمداً على أسس الاقتصاد الكلي السليمة وليس المسكنات المؤقتة التي قد تؤدي إلى كوارث لا تحمد عقباها.

والخيارات المطروحة.. حلول وهمية تفتح باب الجحيم التضخمي

أثارت بعض المقترحات الرسمية قلق الخبراء، أبرزها اللجوء إلى "السحب على المكشوف" لتمويل عجز الرواتب. إلا أن البنك المركزي يُبدي رفضاً قاطعاً لهذا الخيار، مستنداً إلى وجود مديونية حكومية تراكمية فلكية تصل إلى تريليونات الريالات، مما يجعل من أي سحب إضافي مغامرة غير محسوبة العواقب.

وفي تحليل دقيق للتداعيات، حذر الخبير الاقتصادي معمر باوهبان من أن هذا المسار يعادل "طباعة نقد بدون غطاء"، مما يؤدي حتماً إلى:

· زيادة غير مدروسة في الكتلة النقدية، وبالتالي إشعال موجة تضخم جامح يفقد معها الريال قوته الشرائية المتبقية.

· وتعريض كل مكاسب البنك المركزي الأخيرة في تحقيق استقرار نقدي نسبي ومكافحة المضاربة إلى خطر الانهيار.

· وخرق التزامات اليمن أمام صندوق النقد الدولي والجهات المانحة، مما يقوض فرص أي دعم مالي مستقبلي.

احتياطيات البنوك.. خط أحمر لا يُتجاوز

كما يرفض البنك المركزي بشكل قاطع الاقتراح الآخر القاضي باستخدام احتياطيات البنوك التجارية الموجودة لديه. ويؤكد با وهبان أن هذا الموقف "عين الصواب"، مبرراً ذلك بأن هذه الأموال هي أموال مملوكة للمودعين في تلك البنوك وليست ملكاً للحكومة. واستخدامها لتمويل العجز الحكومي يعد

· انتهاكاً صريحاً للأصول والقوانين المصرفية

· وتقويضاً لثقة المودعين، وهو حجر الأساس في استقرار أي نظام مصرفي، مما قد يدفعهم إلى سحب مدخراتهم ويؤدي إلى أزمة سيولة طاحنة.

· بالاضافة الى شلّ قدرة البنوك على منح الائتمان والقيام بدورها في تنشيط الاقتصاد.

عملة الموانئ.. مقترح كارثي

ولم يسلم مقترح استخدام العملة المطبوعة والمخزنة في الموانئ من النقد، حيث وصفه الخبير الاقتصادي بـ "الخطأ الجسيم"، مؤكداً أن إطلاق أي عملة بدون غطاء سيشكل "كارثة على استقرار العملة" وسيعيد الاقتصاد إلى "مربع الصفر"، مهدداً بإفشال كل الجهود والإصلاحات النقدية التي تحققت بصعوبة بالغة.

جذور الأزمة الحقيقية: الإيرادات الهاربة

يكمن تحليل المشكلة الحقيقية ليس في نقص الحلول، بل في تغييب الإرادة لمعالجة منبعها الأساسي: إشكالية تحويل حسابات الجهات الإيرادية. فالباحث عن جذر الأزمة يجد أن:

· البنك المركزي يفتقر إلى الصلاحية القانونية لإرغام الجهات الحكومية على تحويل إيراداتها إليه.

· وان أستمرار تحويل الإيرادات الحكومية (عائدات النفط والضرائب والجمارك وغيرها) إلى حسابات في بنوك تجارية وشركات صرافة بدلاً من الخزينة العامة في البنك المركزي، يحرم البلاد من مواردها الأساسية التي من المفترض أن تُموّل الرواتب والخدمات.

· هذه المسؤولية هي بالدرجة الأولى مسؤولية تنفيذية تقع على عاتق رئاسة الوزراء ووزارة المالية، وليس البنك المركزي

الحل الجذري: قرار سياسي وليس نقدي

وفي ضوء هذا التحليل، تبرز الحلول الحقيقية التي يجب على الحكومة ورئاسة الوزراء تبنيها فوراًوتتمثل في 

 إصدار توجيهات ملزمة لجميع الجهات الحكومية بتحويل حساباتها الإيرادية إلى البنك المركزي.

 وفرض عقوبات إدارية صارمة على أي مسؤول أو جهة تتخلف عن تنفيذ هذا التوجيه

 ومتابعة عملية التنفيذ بشكل حازم ومستمر

 والعمل على إصلاح نظام تحصيل الإيرادات وإنشاء نظام مركزي بشكل حديث وشفاف يجمع إيرادات الدولة ويوفر رؤية واضحة للموارد المتاحة.

 وبناء احتياطي نقدي تدريجياً لمواجهة الطوارئ والأزمات الدورية.

وخلاصة القول إن الأزمة الحالية هي اختبار حقيقي للإرادة السياسية.

 وكون الحلول الترقيعية والتضخمية التي تطرحها بعض الأطراف هي وصفة لكوارث اقتصادية تدفع ثمنها الطبقة الفقيرة والمتوسطة. 

والطريق الوحيد للخلاص هو من خلال تعاون بناء بين البنك المركزي المستقل في إطار سياسته النقدية ورئاسة الوزراء المنفذة لسياساتها المالية، وليس من خلال الصراع أو إلقاء التهم. معالجة جذور المشكلة تكمن بجمع الإيرادات وهي الحل الوحيد لضمان صرف منتظم للرواتب وتحقيق استقرار اقتصادي طويل الأمد.