المجاعة في المناطق المحررة: جوعٌ بصناعة بشرية وسط ثروات معطلة وإدارة مشلولة

 أن تجوع في وطن غني بالثروات، فتلك ليست مصيبة فقر، بل كارثة إدارة.

في المناطق المحررة من اليمن، حيث تُفترض وجود سلطة شرعية ومجلس انتقالي يمثل الجنوب، تتعاظم معاناة المواطنين يومًا بعد آخر، ليس بفعل الحرب وحدها، بل نتيجة مباشرة لسوء الإدارة، وتفكك القرار، وانحراف الأولويات.

المجاعة هنا ليست قضاءً وقدرًا، بل نتيجة صناعة بشرية ممنهجة، تآلفت فيها عوامل الفساد، والانقسام، وتعطيل الموارد، واحتكار النفوذ الاقتصادي، لتنتج مشهدًا إنسانيًا مروّعًا وسط صمت حكومي مريب.

*أولًا: جوهر المشكلة – مفارقة الثروة والجوع* 

تمتلك المناطق المحررة:

- حقول النفط والغاز في حضرموت وشبوة ومأرب.

- سواحل غنية بالأسماك في المهرة وسقطرى وعدن.

- موانئ استراتيجية كميناء عدن والمكلا وبلحاف.

- مصافٍ قادرة على تأمين المشتقات محليًا.

ورغم ذلك، فإن الواقع يكشف عن:

* تضخم أسعار المواد الغذائية بأكثر من 400%.

* انقطاع أو تدنٍ شديد في الرواتب.

* انهيار مريع للخدمات الأساسية.

* غياب شبه كلي لشبكات الأمان الاجتماعي.

هذه المفارقة تفضح حجم الخلل البنيوي الذي أصاب إدارة المناطق المحررة، وجعل من المجاعة نتيجة مباشرة لتفكك القرار الاقتصادي وانعدام الإرادة.

 **ثانيًا: الأسباب التي صنعت هذه المجاعة** 

 *

 1. الانهيار النقدي وفقدان السيطرة على السوق** 

سعر الدولار تجاوز 2900 ريال في المناطق المحررة، بينما استقر عند 550 ريالًا في مناطق الحوثيين.

القوة الشرائية للموظف الحكومي تراجعت بأكثر من 80%.

الرواتب لا تُصرف بانتظام، وغالبًا ما تأتي دون غطاء حقيقي.

لا توجد سياسة مالية موحدة، ولا تدخل فاعل من البنك المركزي في عدن لضبط السوق.

 *2. تعطيل الموارد السيادية* 

توقف تصدير النفط منذ أواخر 2022 بسبب تهديدات الحوثيين، ما حرم الحكومة من أحد أهم مصادر الدخل.

عدم توريد الإيرادات العامة إلى البنك المركزي، حيث تحتفظ بعض المحافظات بعائداتها خارج الموازنة.

شلل مصافي عدن وعدم تشغيلها رغم قدرتها على إنتاج المشتقات محليًا.

نهب الثروة السمكية من خلال تصدير عشوائي وغياب الرقابة، ما حرم الصيادين من فرص عادلة.

3. انقسام السلطة وغياب التنسيق

غياب التنسيق بين الحكومة والمجلس الانتقالي الجنوبي، وتعدد مراكز القرار.

صراع الصلاحيات عطل الأداء الاقتصادي، وجعل كل طرف ينشغل بإدارة نفوذه لا خدمة المواطن.

4. *تحول بعض القيادات إلى شركاء في الأزمة** : 

انخرطت قيادات سياسية وعسكرية في الأنشطة التجارية والمصرفية والعقارية.

استخدم كثيرون نفوذهم لتوسيع مصالحهم الشخصية، بدلًا من خدمة الشعب.

برزت ظاهرة "المسؤول–التاجر"، ما أدى إلى احتكار السوق وتشويه آليات العرض والطلب.

هذا التحول أفقد الدولة قيمتها الأخلاقية أمام شعبها، وساهم في ترسيخ المجاعة كواقع دائم.

 *ثالثًا: الحلول العاجلة لإنقاذ المواطنين* 

1. توحيد الإيرادات العامة وإيداعها حصريًا في البنك المركزي بعدن، تحت إشراف دولي لضمان الشفافية، وربطها بخطة مالية لصرف الرواتب والخدمات.

2. استئناف تصدير النفط ضمن ترتيبات حماية دولية، وتخصيص عائداته للإنفاق المباشر على المرتبات والموازنة العامة.

3. تشغيل مصافي عدن بكامل طاقتها لتقليل الاعتماد على الاستيراد، وتخفيض أسعار المشتقات، وتأمين الأمن الطاقي.

4. إعادة تفعيل ميناء عدن وتنظيم إدارته بعيدًا عن التسييس والفوضى، ليكون بوابة تجارية حقيقية لليمن كما كان.

5. تنظيم تصدير الثروة السمكية ومنع التهريب، مع إنشاء أسواق محلية تُمكّن الصيادين من تسويق منتجاتهم بعدالة.

6. صرف الرواتب بانتظام وربطها بسعر الصرف المتغير، لضمان بقاء القدرة الشرائية للمواطنين ضمن حدود الكرامة.

7. تشكيل مجلس اقتصادي طارئ مشترك بين الحكومة والمجلس الانتقالي وخبراء مستقلين، لوضع خطة إنقاذ اقتصادي لمدة عام.

8. فرض ضوابط صارمة على استغلال النفوذ الاقتصادي:

9. حظر ازدواجية "المسؤول–التاجر".

إخضاع القيادات للكشف المالي والمحاسبة.

10. تشكيل هيئة رقابة مستقلة تتابع مظاهر الفساد وتحتكم للرأي العام.

تجريم استغلال المنصب في القطاع المصرفي أو العقاري.

ختاما: إن ما يحدث في المناطق المحررة اليوم لا يمكن تبريره بالحرب وحدها، فالمشكلة أعمق من ذلك.

هي أزمة قيادة، وأزمة ضمير، وأزمة غياب المشروع الوطني.

المواطن الجائع لا يهمه من يحكم، بل كيف يعيش.

وما لم تتوقف النخب المسيطرة عن العبث، وتتحمل مسؤوليتها الأخلاقية، فإن المجاعة ستستمر، والثقة ستنهار، والشرعية حتى وإن بقيت سياسية – ستفقد معناها الإنساني تمامًا.

لقد آن الأوان لأن يتقدّم الخبز على البندقية، والدواء على الخطاب، والمواطن على النفوذ.

وإلا، فلن يرحمهم التاريخ.. ولن يسكت الجائع طويلًا.