إيران ومفارقة الهوية الممزقة بين العلم والخرافة ..


بروفيسور / قاسم المحبشي ..

في نقد النزعة الثقافوية التي تسجن المعنى ..

وأنا أبحث في مسألة الهوية والذات العربية وقع في يدي كتاب عالم الاجتماع الفرنسي، جان فرنسوا بايار ( أوهام الهوية) الصادر ١٩٩٨م. يناقش مشكلة الهُوِية التي كثُر الحديث عنها في ظل العولمة وما أُشيع حول صدام الحضارات؛ وذلك من خلال دراسةِ ظاهرة الانغلاق الثقافي، وتجلِّياتها في المجال الأيديولوجي والسياسي والأكاديمي إذ كتب " أنه ليس هناك من دواعي قلق معاصر إلا وتثيره قضية الهوية"ولعل الإشكال الذي يتصل بمفهوم الهوية لا يكمن في الأسماء والمسميات و التعريفات والصفات ذاتها وبذاتها,  بل فيما تعنيه للفاعلين الاجتماعيين في السياقات الاجتماعية والثقافية المشخصة (البسيطة والمركبة, الميكر والماكروسوسيولوجيا)..

 وقد استوقفتني فكرة بايار من النظر إلى الهويات بوصفها استراتيجيات تتغير وتتشكل باستمرار من مختلف الموارد والممكنات التاريخية المتعينة في سياقاتها المكزمانية و " حول إشكالية الثقافة بين الهُوية والتفاعل؛ يطرح بايار في مقاله سؤالًا جوهريًّا عن مدى شرعية اعتبار الثقافة كيانًا ثابتًا يستحق الحفاظ عليه أو التخلص منه، مستندًا إلى تحليل تاريخي وأنثروبولوجي معقد..

 إذ يرى بأن الثقافة ليست هوية جاهزة ومكتملة يمكن وضعها في مستودع الأجهزة المستعملة والعودة اليها حينما نحتاجها بل هي عملية ديناميكية تتشكل عبر الحوار والتفاعل مع البيئة المحلية والدولية. وهذا التفاعل لا ينفي وجود جذور تاريخية؛ لكنه يؤكد أن الثقافات تتبنى عناصر خارجية وتعيد صياغتها لتكوين هويات مركبة" وفي ضوء هذه الرؤية العقلانية يناقش بايار عدد من التجارب الوطنية والثقافية التي استخدمت “الهوية” كوسيلة لإعادة إنتاج السلطة، ومن بينها التجربة الإيرانية الفارسية، التي تُمثّل نموذجًا غنيًا ومعقدًا لتوظيف الهوية في بناء الأمة والدولة والخطاب السياسي منذ عهد رضا شاه البهلوي (1925)، إذ انخرطت في مشروع قومي يهدف إلى إعادة إحياء “الهوية الفارسية” بوصفها جوهر الأمة الإيرانية..

 وقد تم ذلك من خلال تغريب الإسلام السياسي، وإقصاء البعد العربي، والتهوين من المكونات الإثنية غير الفارسية كالأذريين والبلوش والكرد والعرب وهذا هو ما فهمه الفيلسوف الفرنسي ميشل فوكو حينما زار ايران في سبتمبر 1978حيث شاهد الروح الفارسية تتقنع بالراية الإسلامية لا بوصفها بنية تاريخية هجينة، بل كأصل نقي وأسطوري يُستعاد من الماضي الزرادشتي-الساساني إذ تم استحضار شخصيات مثل كوروش الكبير وداريوس كرموز لـ”الروح الإيرانية”، ويُعاد تأويل التراث الأدبي، ولا سيما شعراء مثل فردوسي، في خدمة بناء سردية قوموية متماسكة جديدة وفي كتابهما ( فوكو والثورة الإيرانية) تتبع جانيت أفاري وكيفين بي أندرسون مواقف الفيلسوف الفرنسي المعجب بالثورة الخمينية في بحثه المضني عن قطيعة تامة مع الحداثة الغربية وجد تلك القطيعة الجماعية ممثلة ب" ملايين تزلزل الشوارع، حشود لا نهاية لها، بإرادة واحدة، ورغبة واحدة، عبر تناقض مُضمر مُخيف، ما يُميتنا يُحيينا، إرادة قوة نيتشوية مُعَدّلة بمزاج شرقي، والكل وراء وراء مرشد روحي واحد. ينزع فوكو قبعة الكوجيتو الديكارتي، قبعة العقلانية، وينضوي تحت عمامة روح الله الخميني الفارسية" ( ينظر، مصطفى ذكرى، فوكو في إيران ٢٠٢٤، المجلة، جوجل" ..

نعم إيران بعد الثورة الخمينية(1979) لم تخفي  النزعة الفارسية، بل وضعت لها قناع جديد تمثل في الهوية الشيعية-الإمبراطورية، التي تتخذ من الإسلام وسيلة لإعادة تموضع إيران في محيطها العربي والإسلامي. يكشف  بايار  ذلك الخلط المتناقض في قلب الهوية الإيرانية الخمينية بين الرسالة الإسلامية والأيديولوجيا القومية الفارسية، فصورة إيران بوصفها “حامية المستضعفين” تخفي في طياتها نزعة توسعية ومركزية ثقافية ذات طابع فارسي شيعي، تُعيد إنتاج وهم “الهوية الإيرانية” المطلقة فيما يشبه الاستعمار الثقافي المضاد، عبر تصدير شعارات ثورة الولاية وقيمها ورموزها الطائفية الشيعية في ارجاء العالم الاسلامي كلها وفي الأثناء ظلت إيران تستبطن تمثيلًا ذاتيًا عن تفوقها الحضاري والديني على “العرب السنّة”، في إعادة إنتاج لثنائية “الفرس المتنورين” مقابل “العرب البدائيين”، وهي ثنائية كانت حاضرة أيضًا في أدبيات العصور الإسلامية الكلاسيكية (الشعوبية) وهكذا كان مشروع “الهوية الفارسية”، سواء في نسخته القومية البهلوية أو الشيعية الثورية، يعكس احتكارًا للمعنى يُقصي الآخر المختلف داخل الدولة (الأقليات) وخارجها (العرب، السنّة، الغرب)...

ويذهب جان فرنسوا  بايار إلى أن هذا التوظيف للهوية الفارسية بقناع ديني شيعي يؤدي في النهاية إلى عنف رمزي وربما مادي، لأنه يفرض سردية واحدة على فضاء تعددي بطبيعته. وهو ما يجعل الهوية – كما يتكرر في نصه – “وهمًا سياسيًا” dangerous illusion، لا كينونة أنطولوجية" وبهذا المعنى يمكننا فهم رفضه لوهم الهوية الثقافية الإيرانية فإيران “الفارسية” في خطاب الهوية، سواء قبل الثورة أو بعدها، لا تعبّر عن الحقيقة الثقافية لإيران بقدر ما تعكس مشروعًا سياسيًا يستخدم “الهوية” لتشكيل الواقع لا لوصفه..

ومن هنا فإن نقد بايار ينبهنا إلى أن الدفاع عن “الهوية” ينبغي أن يُستبدل بالدفاع عن الحقوق، التعدد، والذاكرة المشتركة، بعيدًا عن أوهام الصفاء والانتماء المتعالي..

 يستشهد الكاتب بمقولة ميشيل دي سيرتو: "الثقافة هي ما يدوم وما يُبتكر"، مؤكدًا أن التركيز على النقل والنسخ يجمّد الثقافة، بينما الابتكار يجعلها حية. كما أن الأصالة تُصنع غالبًا لخدمة أغراض معاصرة، كما في حالة هنري فورد، الذي روّج للفنون التقليدية الأمريكية بين الزنوج بينما في الحقيقة كان يعزز قيم البروتستانتية البيضاء..

هذه الأصالة ليست انعكاسًا للماضي، بل هي قراءة انتقائية تُوظَّف لمواجهة تحديات الحاضر. وفي ذات السياق جاء كتاب أوهام الهوية» للمفكر  الإيراني داريوش شايغان 1993م يرى شايغان أن الهوية ليست شيئًا ثابتًا أو جوهرًا جوهريًا، بل بنية متخيلة تتعرض دومًا لتقلبات التاريخ، ويكمن الخلل، حسبه، في أن المجتمعات التي لم تمر بمخاض الحداثة الطبيعي – من الإصلاح الديني إلى التنوير والعقلانية العلمية – تجد نفسها عالقة بين عالمين: عالم الحداثة الذي تغري به التقنية والقوة، وعالم التراث الذي يشدها إلى الوراء. وكتاب  شائعات، أوهام الهوية، محاولة جريئة لسبر أغوار الذات الثقافية الإيرانية (والإسلامية عمومًا) في زمن ما بعد الاستعمار، وتناقضاتها الظاهرة والخفية إذ تعيش على تخوم التراث والحداثة ويرسم لوحة لبلد يبحث عن ذاته وسط ضجيج الشعارات والماضي والانبهار بالغرب، دون أن يجد طريقًا مستقيمًا لمصالحة الذات مع الزمن...