جامعات بلا تعليم، وطلاب بلا مستقبل
في بلد تتناسل فيه الأزمات كما يتناسل الفساد، لم يكن غريبًا أن يضاف قطاع التعليم الجامعي إلى قائمة الضحايا الذين يسقطون تباعًا في متوالية الفشل.
ففي جامعة عدن، وعدد من الجامعات في أبين ولحج وشبوة، لم تعد القاعات تغص بالطلبة ولا المنابر تعج بالمعرفة، بل أصبح الصمت هو الصوت الأعلى، بفعل إضراب أعضاء هيئة التدريس احتجاجا على ظروف مزرية ومعيشة لا تليق حتى بالحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.
الإضراب، في جوهره، ليس اعتداء على حق الطالب في التعليم، بل هو صرخة في وجه سلطة قررت أن تترك الأستاذ الجامعي يتآكل بين أرقام التضخم، ومواعيد الرواتب المؤجلة، ووعود التسويات التي لا تأتي أبدًا.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأكثر مرارة: من يدفع الثمن؟
الجواب ببساطة: الطالب. .
الطالب الذي ينهض كل صباح بحثًا عن علم قد لا يجده، وعن مستقبل تتآكله الأزمات من أطرافه.
يؤلمك أن ترى طلابا مثل حسام الكريدي، يتحدثون بمرارة عن توقف الدراسة، وتأخر المناهج، وضبابية المشهد، حتى بات التحصيل العلمي أقرب إلى مغامرة عبثية. هؤلاء الطلاب الذين لا يعارضون حقوق أساتذتهم، لكنهم يرفضون أن يكونوا ضحايا لتقاعس حكومي تآمر مع الصمت، وشرعن فوضى التجاهل. كيف يمكن لبلد أن يتحدث عن التنمية، وعن بناء الإنسان، وهو يطحن طلابه في رحى الإهمال؟
الدكتور محمد محسن، عميد كلية الحقوق، قالها بوضوح، أن الأزمة ليست محلية، بل تعصف بكل الجامعات، ومصدرها الرئيسي تجاهل الدولة للصرخات المتكررة من الكادر التدريسي. راتب لا يغطي أبسط مقومات الحياة، وأسعار تلتهم كل شيء، وكرامة تتبخر أمام المكاتب الباردة للمسؤولين.
أما الدولة، فهي غائبة تمامًا، إلا في البيانات المتلفزة ووعود الاجتماعات الفارغة.
إن ما يحدث في جامعة عدن ليس مجرد توقف للدراسة، بل هو مؤشر على انهيار منظومة بأكملها. لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض إذا انهار عموده الفقري الأكاديمي، وإذا عاش الأستاذ الجامعي حياة التسول المقنّع، وإذا بقي الطالب مرهونًا لتقلبات الرواتب وقرارات المجهول.
ما المطلوب إذا؟
المطلوب أولًا، أن تعود الدولة إلى رشدها، وتدرك أن التعليم ليس بندًا مؤجلاً في دفاترها، بل هو استثمار لا يُمكن الاستغناء عنه. المطلوب أن تتم الاستجابة العاجلة لمطالب الكادر التدريسي، لا تفضلاً بل كحق قانوني وأخلاقي. والمطلوب أيضًا من النقابات أن تتصرف بمسؤولية، فتحدد سقفًا زمنيًا واضحًا لأي إضراب، وتحمي الطلاب من التحوّل إلى رهائن في معركة طويلة الأمد.
وإلى المعلمين، نقولها بصدق، نؤمن بعدالة قضيتكم، ولكن لا تجعلوا طلابكم وقودا للمعركة.
أنتم صناع الوعي، فلا تساهموا في هدم ما تبقى من أحلامهم.
في هذا البلد، لم يتبقَّ كثير من الأمل، فلا تخنقوا ما تبقى.